تكرار الدعوة للقيامة :
يكرر السيد الدعوة لخطيبته أن تقوم، قائلاً لها:
"قُومِي وَتَعَالَيْ، يَا قريبتي، يَا جَمِيلَتِي،
يَا حَمَامَتِي فِي مَحَاجِئِ الصَّخْرِ، فِي سِتْرِ الْمَعَاقِلِ.
أَرِينِي وَجْهَكِ، أَسْمِعِينِي صَوْتَكِ،
أَنَّ صَوْتَكِ لَطِيفٌ، وَوَجْهَكِ جَمِيلٌ" [١٣-١٤].
لماذا يكرر الخاطب الدعوة لعروسه أن تقوم؟ يُجيب القديس غريغوريوس أسقف نيصص قائلاً[28]: [بإنه يدعو العروس القائمة أن تقوم ثانية، والتي اقتربت إليه أن تأتي إليه... لأنها يليق بها أن تدخل من مجد إلى مجد (2 كو ٣: ١٨)، وهي دومًا تتطلع إلى ما هي عليه فترى نفسها أقل بكثير مما تود أن تكون عليه. فمع كونها "حمامة" لكمالها في المسيح، لكنه يوصيها مرة أخرى أن تصير "حمامة" أي تدخل إلى حال أكمل، وإذا هي قائمة يدعوها أن تقوم معطيًا إياها قوة للقيام على الدوام ولحياة النمو والتقدم.
في المرة الأولى يدعوها أن تقوم وتأتي إليه: "قومي... وتعالي"، أما الآن فهو يدعوها أن تخرج من بيتها ومن مدينتها وتنطلق إلى محاجئ الصخر إلى ستر المعاقل. فإذ مضى وقت الشتاء الذي فيه أغلقت العروس على ذاتها، يلزمها الآن أن تخرج وتنطلق ليس فقط عن شهوات الجسد الشريرة بل وعن العالم المنظور كله... إنه يدعوها للقاء معه داخل الحصون الأبدية غير المنظورة!
إن كان الرسول قد رأى في الصخرة التي كانت تتبع الشعب قديمًا شخص المسيح نفسه (١ كو ١٠: ٤)، فإن العريس هنا يطلب من عروسه ليس فقط أن تخرج من ذاتها ومن العالم المنظور بل بالحري أن تدخل إلى المسيح نفسه، الصخرة الحقيقية، حتى تعيش معه بغير حجاب أو نقاب... إنما ترى مجده بوجه مكشوف (٢ كو ٣: ١٨)، وتتحدث معه.
دخولها الصخرة للقاء مع العريس يُشير إلى آمانها، فهناك لا تقدر الحية القديمة أن تجد لها مسلكًا، إذ جاء في سفر الأمثال: "ثلاثة عجيبة فوقي وأربعة ولا أعرفها: طريق نسر في السموات وطريق حية على صخر..." (أم ٣٠: ١٨). ويعلق العلامة أوريجانوس على ذلك بالقول[29]: [إنه لا يوجد مسلك للحية (على الصخر)، أي لا يمكن أن يوجد أثر للخطية على هذه الصخرة التي هي المسيح، إذ هو وحده بلا خطية. فإذ تستفيد النفوس من الاحتماء داخل هذه الصخرة، تذهب بسلام إلى موضع الحصون، أي تتمتع بالتأمل في الأمور الأبدية غير الجسدية].
لقد تحدث داود عن هذه الصخرة بطريقة مجازية أخرى في المزمور: "أقام على صخرة رجلي، ثبت خطواتي" (مز ٤٠: ٣). لا تعجب إن كانت الصخرة بالنسبة لداود كأنها أرض أو أساس تسير عليها النفس نحو الله، وهي بالنسبة لسليمان الغطاء الذي يُقام على النفس لتتمتع بأسرار الحكمة الداخلية، فإن السيد المسيح نفسه دُعي مرة الطريق (يو ١٤: ٦) الذي يسير فيه المؤمنون، كما دُعي مرة أخرى بالسابق كقول بولس: "حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا" (عب ٦: ٢٠).
بنفس الطريقة جاء قول الله لموسى: "إنيّ أضعك في نقرة من الصخرة فتنظر ورائي" (خر ٢٣: ٢٢-٢٣). هذه الصخرة هي المسيح، لم تغلق تمامًا بل كان بها نقرة، (وفي نفس الوقت) هذه النقرة من الصخرة هي أيضًا ذاك الذي يعلن الله للناس فيجعله معروفًا لهم، إذ لا يعرف أحد الآب إلاَّ الابن (مت ١١: 2٧). لا يرى أحد وراء الله، أي الأمور التي تحدث في الأزمنة الأخيرة ما لم يدخل في النقرة التي في الصخرة، أي يتعلمها خلال إعلان المسيح نفسه.
إذن دعوة المسيح للنفس بالقيامة إنما هي دعوة للدخول في المسيح يسوع لتلتقي مع الله بوجه مكشوف... "أَرِينِي وَجْهَكِ، أَسْمِعِينِي صَوْتَكِ".
هذا القول لا يعني أن وجهها مخفي عنه أو صوتها مجهول بالنسبة له، لكنه يُريدها أن تدخل إلى الاتحاد معه، فتظهر أمامه في دالة الحب كعروس تظهر بغير قناع، وتتحدث في صراحة كاملة!.
يعلق العلامة أوريجانوس على هذه الدعوة، قائلاً[30]:
[هنا تحت غطاء الصخرة يدعو كلمة الله النفس التي صارت قريبته للدخول إلى الحصون، وكما سبق أن قلنا أنها تعني التأمل في الأمور الأبدية غير المنظورة. هناك يقول لها: "أَرِينِي وَجْهَكِ". فإنه بالتأكيد لا يوجد بعد أثر للقناع القديم الذي كان على وجهها بل صار لها أن تتأمل مجد الله بغير خوف قائلة: "ورأينا مجده مثل مجد ابن وحيد لأبيه مملوء نعمة وحقًا" (يو ١: ١٤)].
وإذ تصير مستحقة أن يُقال عنها ما قيل عن موسى: "موسى يتكلم والله يُجيبه" (خر ١٩: ١٩) يتحقق فيها قوله: "أَسْمِعِينِي صَوْتَكِ". حقًا يا له من مدحٍ عظيم يتمتع به إذ يُقال لها: "صَوْتَكِ لَطِيفٌ!" هكذا قال أيضًا داود الآب الحكيم جدًا: "يلذ له صوتي" (مز ١٠٤: ٣٤)، فإن صوت النفس يكون لطيفًا حينما تنطق بكلمة الله وتفسر الإيمان وتعاليم الحق وتكشف معاملات الله وأحكامه. أما إذا خرج من الفم حديث سخيف أو مزاح منمق أو تفاهات أو كلمات بطالة تعطى عنها حسابًا يوم الدين (مت ١٢: ٣٦) فلا يكون هذا الصوت لطيفًا أو مبهجًا. مثل هذا الصوت لا يعطيه المسيح أذنًا! لهذا فإن النفس الكاملة تضع حافظًا على فمها وبابًا حصينًا على شفتيها حتى يكون ما تنطق به مصلحًا بملح، له نعمة لدى سامعيه (كو ٤: ٦)، فيقول كلمة الله: "صَوْتَكِ لَطِيفٌ".
يقول أيضًا "َوَجْهَكِ جَمِيلٌ". تستطيع أن تدرك أي نوع من "الوجه" هذا الذي مدحه كلمة الله ووصفه أنه جميل أن فهمت ما عناه بولس بالوجه في قوله: "ونحن جميعًا ناظرين... بوجه مكشوف" (٢ كو ٣: ١٨)، وقوله أيضًا: "لكن حينئذ وجهًا لوجه" (١ كو ١٣: ١٢). إنه بلا شك نوع من الوجه يتجدد يومًا فيوم (٢ كو ٤: ١٦)، حسب صورة خالقه (كو ٣: ١٠)، ليس فيه دنس أو غضن أو شيء من مثل ذلك بل يكون مقدسًا وبلا عيب، كالكنيسة التي يحضرها المسيح لنفسه (أف ٥: ٢٧)، بمعنى آخر يعني النفوس التي بلغت الكمال، هذه التي تكون جسد الكنيسة، يظهر هذا الجسد بالحق جميلاً ووسيمًا، متى كانت النفوس التي تتكون منه مثابرة على نوال جمال الكمال. فإنه كما أن النفس حين تكون ثائرة تشوه شكل الوجه الجسدي وتجعله مثيرًا، أما إذا كانت في هدوء فتعطي للوجه شكلاً يحمل سلامًا ورقة، هكذا أيضًا وجه الكنيسة يكون جميلاً أو قبيحًا حسب سمات المؤمنين وطموحهم. لقد كتب "الوجه الطلق يُشير إلى قلب ناجح" (ابن سيراخ 13: 26)، وفي موضع آخر قيل "القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا، وبحزن القلب ينسحق الوجه" (أم ١٥: ١٣). يكون القلب فرحًا متى كان روح الله فيه، هذا الذي أولى ثماره هي المحبة والثانية هي الفرح (غل ٥: ٣٢). وإننيّ أظن أن الحكم العالمية قد أخذت أفكارها من هذه الحقائق إذ قالت أن الحكيم جميل وكل إنسان شرير هو قبيح.
بقي لنا أن نقدم شرحًا مطولاً عن "ستر المعاقل". فإن هذا التعبير كما قلنا قبلاً يعني وجود سور أمام سور، وهذا ما عبر عنه إشعياء: "يجعل الخلاص سورًا وسورًا حولها" (إش ٢٦: ١). السور يُشير إلى المدينة، والسور الآخر الذي أمام الأول أو حوله فيُشير إلى حصانات أعظم وأقوى. وكان كلمة الله يدعو النفس ويقودها من أهتماماتها الجسدية وإدراكاتها الحسية ويخرج بها ليعلمها أسرار الحياة الأخرى، فتكون في حصانة حتى إذ تتقوى وتُحاصر بالرجاء في الأبديات، لا يسحبها طعم ما ولا تقلقها التجارب.
هكذا فإن دعوة السيد المسيح للكنيسة أو للنفس البشرية لخبرة القيامة، إنما هي دعوة للانطلاق من الذات البشرية والخروج عن الجسديات. وعبور إلى الحياة الجديدة السماوية... هي دخول إلى "سِتْرِ الْمَعَاقِلِ" أي إلى حضن الآب السماوي الذي فيه تتحصن الكنيسة كحمامة المسيح. هكذا يُريد المسيح القائم من الأموات أن يدخل بمؤمنيه إلى حضن أبيه ويعلن لهم الأسرار الإلهية إذ يقول لهم: "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبر" (يو 1: ١
. مرة أخرى يقول: "أنيّ أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي" (يو 15: 15)، وأيضًا: "أيها الآب أُريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي" (يو ١٧: ٢٤).
إنه يدعوها للاتحاد به "الصخرة الحقيقية" والدخول معه إلى حضن أبيه "ستر المعاقل" لتكون معه إلى الأبد... هذه هي الحصون الأبدية التي تُضفي على الكنيسة جمالاً فيكون صوتها لطيفًا ووجهها جميلاً!.
هكذا يدعو الخاطب خطيبته أن تطير من نطاق الفكر الجسدي إلى الفكر الروحي، فلا تعود حمامة رعناء (هو ٧: ١١) بل يراها وديعة طاهرة يشتاق إلى صلواتها والتصاقها به... يرى وجهها على الدوام ويسمع صوتها.