وقوفه وراء حائطنا :
1. إذ نزل المخلص إلينا يطلبنا عروسًا له جاءنا من السماء ونزل حتى إلى حائطنا الذي أقمناه بعصياننا لله. جاء إلى الحجاب الذي فصلنا عن قدس أقداس الله ووقف وراءه يعمل ويجاهد حتى الدم، فحطمه، وفتح لنا طريقًا سماويًا نسير فيه.
نحن أقمنا الحجاب، فصرنا عاجزين عن الصعود إليه، لهذا نزل هو إلينا، وعلى الصليب انشق حجاب الهيكل، لكي يشرق لنا بقيامته خلال الكوى والشبابيك التي صنعها بنفسه.
2. ويُشير حائطنا أيضًا إلى طبيعتنا البشرية، فقد نزل إلينا مختفيًا وراء بشريتنا حتى لا نرتعب منه أو نخافه، بل نقبله ونحب الاتحاد به.
دعوة للقيامة :
نزل الخاطب إلى بيت مخطوبته وهو يعلم أن شباكًا وفخاخًا كثيرة قد نصبت لها تجعلها غير قادرة على الخروج من بيتها وحدها والارتفاع إلى بيته... نزل بنفسه ذاك الذي وحده لا تقدر فخاخ الخطية أن تمسك به ولا شباك الموت أن تقتنصه، فقد وطأ الخطية تحت قدميه وبموته المحيي داس الموت وحطمه في عقر داره... والآن يدعو خطيبته أن تخرج معه ولا تخف، لكي تختبر "الحياة المقامة" أو الحياة الجديدة التي صارت لها خلال قيامته... قائلاً لها "قومي يا قريبتي" (نش ٢: ١٠) لا تخافي. ثقي أنا قد غلبت العالم وكل شروره والموت بكل سلطانه.
يعلق العلامة أوريجانوس على دعوة المسيح لخطيبته قائلاً: [إنه يقول لها هذا ليظهر لها كيف يليق بها أن تحتقر الشباك التي نصبها العدو في الطريق، ولا تخف الفخاخ إذ تراها ممزقة بواسطته].
إنه يُناديها بسلطان أن تقوم لتلتصق به وتصير حمامته الوديعة، تحمل ثمار القيامة في حياتها قائلاً لها:
"قُومِي يَا قريبتي، يا جَمِيلَتِي، يا حمامتي وَتَعَالَي.
لأَنَّ الشِّتَاءَ قَدْ مَضَى، وَالْمَطَرَ مَرَّ وَزَالَ.
الزُّهُورُ ظَهَرَتْ، بَلَغَ أَوَانُ الْقَضْبِ،
وَصَوْتُ الْيَمَامَةِ Turtle-dove قد سُمِعَ فِي أَرْضِنَا.
التِّينَةُ أَخْرَجَتْ فِجَّهَا،
َقُعَالُ الْكُرُومِ تُفِيحُ رَائِحَتَهَا" [١٠–١3].
إنها دعوة للقيامة الأولى، قيامة النفس البشرية في المسيح يسوع من موت الخطية وانطلاقها فوق الأحاسيس الجسدية والشهوات الأرضية، فتعيش حسب الروح لا الجسد.
يعلق العلامة أوريجانوس على هذا النص قائلاً: [يتحدث كلمة الله للتو مع النفس الجميلة النبيلة، التي يظهر لها من خلال أحاسيسها الجسدية – أي خلال قراءتها للكتاب المقدس وإنصاتها للتعليم – كما من الشبابيك، من خلالها يظهر (كلمة الله) كشخص فارع الطول وعظيم يتحدث إليها بالكلمات السابقة، وينحني نحوها يدعوها أن تقوم وتخرج عن نطاق الأحاسيس الجسدية، وتكف عن البقاء داخل نطاق الجسد، بهذا تستحق سماع الصوت: "أنتم لستم في الجسد بل في الروح" (رو ٨: ٩).
ما كان لكلمة الله أن يلقبها قريبته ويتحد بها ويصير معها روحًا واحدًا (١ كو ٦: ١٧) ولا أن يدعوها جميلة، لو لم يرى صورتها تتجدد كل يوم (٢ كو ٤: ١٦). وما كان قد رآها قادرة على تقبل الروح القدس الذي نزل على يسوع في الأردن على شكل حمامة (مت ٣: ٦) ولا دعاها "حمامته" لو لم تكن قد أدركت حب كلمة الله واشتهت الانطلاق إليها مسرعة وهي تقول: "ليت ليّ جناحًا كالحمامة فأطير وأستريح" (مز ٥٥: ٦). إنيّ أطير بعواطفي، أطير بادراكاتي الروحية، وأستريح عندما أدرك كنوز حكمته ومعرفته (كو ٢: ٣).
يبدو ليّ أنه كما أن الذين يتقبلون موت المسيح ويميتون أعضاءهم التي على الأرض يصيرون شركاء في شبه موته (كو ٣: ٥، رو ٦: ٥)، هكذا أيضًا الذين يتقبلون قوة الروح القدس ويتقدسون به ويمتلئون بعطاياه، يصيرون حمامًا، على مثاله إذ ظهر في شكل حمامة. إنهم يرتفعون بجناحي الروح القدس ويطيرون منطلقين من الأرضيات والمحسوسات إلى المواضع السماوية.
ولكي يظهر أن الوقت قد صار مناسبًا لتحقيق هذه الأمور، يتدخل بطريقة منطقية قائلاً: "لأَنَّ الشِّتَاءَ قَدْ مَضَى وَالْمَطَرَ َزَالَ". فإن النفس لا تصير واحدًا مع كلمة الله وتتحد معه ما لم يمضي مثل ذلك الزمان أي يزول كل شتاء اضطراباتها الشخصية وعواصف رذائلها، فلا تعود تهتز ولا تُحمل بكل رياح تعليم (أف ٤: ١٤). عندما تمضي كل هذه الأمور عن النفس، وتهرب عنها عواصف الشهوات، يمكن لزهور الفضائل أن تبدأ في الظهور داخلها، ويحل أوان القضب... عندئذ أيضًا يسمع "صوت اليمامة" الذي يُشير بالتأكيد إلى الحكمة التي ينطق بها المفوض من "الكلمة" بين الكاملين، حكمة الله العميقة المخفية في سرّ (١ كو ٢: ٦).
هذا و ذكر الحمامة Turtle-dove يُشير إلى هذه الحقيقة: أن هذا الطائر يقضي حياته في الأماكن الخفية جدًا والنائية بعيدًا عن الجماهير. إنه يحب الصحارى الجبلية أو المناطق الخفية في الغابات، ويوجد دائمًا بعيدًا عن الجموع غريبًا عن الجماهير.
وماذا أيضًا يُناسب هذا الزمن ومباهجه؟
يقول: "التِّينَةُ أَخْرَجَتْ فِجَّهَا"، فإن الإنسان الروحي الذي تُشير إليه التينة لم يحمل بعد ثمار الروح: محبة وفرح وسلام وبقية هذه الأمور (غل ٥: ٢٢)، إنما بدأ الآن يحمل الفج (البراعم الصغيرة).
حقًا أن الأشجار على اختلاف أنواعها تُفهم في الكنيسة بوجه عام كرمز لنفوس المؤمنين، إذ كتب عنهم: "كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يُقلع" (مت ١٥: ١٣). وأيضًا بولس الذي يدعون نفسه "العامل مع الله" في كرمه (١ كو ٣: ٩) يقول: "أنا غرست وأبلوس سقى" (١ كو ٣: ٦). والرب نفسه يقول في الإنجيل: "اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيدًا" (مت ١٢: ٣٣). هكذا إذ يُفهم الشجر على اختلاف أنواعه في الكنيسة بكونه نفوس المؤمنين، فإن تعدد أنواعه إنما يرمز إلى القوى المختلفة والفضائل المتنوعة لهذه النفوس.
إذن يوجد في النفس التينة التي تخرج فجها كما توجد الكرمة التي تخرج قعالها وتفيح رائحتها الطيبة. أما صاحب الفلاحة فهو الأب السماوي، الذي يُقلم الكرمة حتى تأتي بثمر أكثر (يو ١٥: ١)[26]....
والعجيب أنه وهو يدعوها لخبرة القيامة قائلاً لها "قومي" يقول لها "بلغ أوان القضب" أي أون تقليم الكرم الذي يُشير إلى الصلب والألم... حيث ينزع عنها فروع أعمال إنسانها العتيق والأفكار الجسدانية الزمنية حتى تأتي بثمر روحي أكثر يحمل سمات سماوية! يدخل بها إلى الآلام والصليب حتى تحمل ثمر القيامة. أنه يفصلها عن شتاء برودة الروح القارصة ليدخل بها إلى ربيع الحياة الجديدة المقامة في المسيح يسوع.
ويمكن أيضًا أن نرى هذه الدعوة للقيامة موجهة للعالم كله... لليهود والأمم، فإن شجرة التين تُشير إلى الشريعة، فبنزول الكلمة إلى العالم لم تعد تُفهم الشريعة خلال الحرف القاتل بل أُعطى لنا أن نفهمها روحيًا...
فحمل اليهود الذين قبلوا السيد المسيح ثمر الروح واتسع قلبهم بالحب نحو البشرية كلها. لم يعد الناموس بالنسبة لهم موضع كبرياء وتشامخ على الأمم كما كانوا قبلاً... لذلك يقول "التينة أخرجت فجها". ويقول أيضًا: "بلغ أوان القضب" أي تقليم الكرمة، فإن كانت الكرمة قد أشارت في العهد القديم إلى الشعب اليهودي فإنه يلزم تقليم أغصانها المتعجرفة حتى تقبل عضوية جماعة الأمم معها فتفوح رائحة المسيح الذكية لتملأ العالم كله. يلزم تقليم الكرمة من المفاهيم الزمنية الأرضية ليكون لها الإدراكات الروحية السمائية.
القيامة: خروج من البرودة إلى الدفء[27] :
يـرى القـديس غريغوريوس أسقف نيصص أن هذا الربيع الذي فيه ظهرت
الزهور وأخرجت التينة فجها وفاح رائحة قعال الكروم إنما هو من صنع الله، كقول المرتل: "الصيف والربيع أنت خلقتهما" (مز ٧٣: ١٧). فقد انتهى فصل الشتاء القارص البرد وجاء الربيع بدفئه. ففي الشتاء كان الإنسان في برودة الوثنية، قد تحولت طبيعته المتغيرة إلى طبيعة الأشياء الجامدة التي كان يتعبد لها. فإنه كما أن الذين يتطلعون إلى الله الحقيقي يتقبلون سمات الطبيعة الإلهية داخلهم، هكذا الذين يتطلعون إلى بطلان الأوثان يتحولون هم أنفسهم إلى ذات الأشياء التي ينظرون إليها، فيصيرون حجارة لا بشر. بتعبدهم الأوثان صاروا حجرًا غير متحرك وغير قادر على التقدم... لهذا أشرق "شمس العدل" في هذا الشتاء القارص وحل الربيع. أزالت ريح الجنوب هذا الجمود، وبظهور أشعة الشمس ساد الدفء على كل من سقطت عليه الأشعة...
إن كانت برودة الشتاء الوثنية قد حولت الإنسان إلى حجر، فإن الكلمة الإلهي "شمس العدل" قد أشرق محولاً الحجر الصقيع إلى مياه دافئة، كقول المرتل: "المحول الصخرة إلى غدران مياه، الصوان إلى ينابيع مياه"، لقد أخرج من الحجارة أولادًا لإبراهيم (مت ٣: ٩).
في هذا الربيع الذي صنعه الرب (بقيامته)، يدعو الكلمة الإلهي عروسه أن تقوم، قائلاً لها: "قُومِي يَا قريبتي، يَا جَمِيلَتِي، يا حمامتي وَتَعَالَي" [١٠]. هنا الدعوة موجهة للعروس أن تقوم وأن تتقدم في طريق الكمال، ذلك كما قال السيد للمفلوج: "قم أحمل سريرك وأمشي" (مت ٩: ٦)، فإن الكلمة لم يطلب منه فقط أن يحمل سريره بل أمره أن يمشي، وأنّي أظن أنه قصد بالمشي هنا التقدم والنمو في الكمال. هنا أيضًا يأمر عروسه " قُومِي وَتَعَالَي"... هذا الأمر يحمل قوة يقدمها العريس لعروسه أن تقوم وأن تسير في طريق الكمال.
أما دعوته إياها " قريبتي، جَمِيلَتِي، حمامتي" فقد جاءت الكلمات بترتيب دقيق، وكما يقول القديس غريغوريوس: [لاحظ ترتيب الكلمات، كيف ترتبط كل كلمة بالسابقة لها. أنظر كيف أن التفكير جاء مترابطًا كما في سلسلة. فإن العروس تسمع الوصية، إنها تحمل قوة التنفيذ بواسطة الكلمة: تقوم، ثم تتقدم، وتصير جميلة، ثم تُدعى حمامة. فإنه كيف يمكنك أن ترى صورة جميلة في مرآة ما لم تتقبل هذه المرآة انعكاسات شكل جميل؟! هكذا أيضًا بالنسبة لمرآة الطبيعة البشرية، فإنه لا يمكنها أن تصير جميلة ما لم يقترب إليها الجميل (الله)، وتتشكل بواسطة صورة الجمال الإلهي. حين سقطت طبيعتنا البشرية على الأرض وتطلعت إلى الحية حملت صورتها. والآن تقوم وتتطلع إلى الصالح معطية ظهرها للخطية، تحمل صورة الصالح الذي تواجهه، إذ تنظر الآن إلى الجمال الأصيل أي الحمامة. إذ تتجه نحو النور تحمل صورة النور، وخلال هذا النور تحمل شكل الحمامة المحبوب، أقصد بالحمامة التي رمزت لحضرة الروح القدس].
هذا هو سرّ الاثمار في الربيع بقيامته اقترب إلينا فاقتربنا إليه (قريبتي)، وحملنا جماله فينا (جميلتي) فصرنا حمامته (إذ حلّ الروح القدس في حياتنا الداخلية