"صَوْتُ حَبِيبِي (ابن أختي)، هُوَذَا آتٍ ظَافِراً عَلَى الْجِبَالِ،
قَافِزاً عَلَى التِّلاَلِ،
حَبِيبِي (ابن أختي) شَبِيهٌ بِالظَّبْيِ أَوْ بِصغيرِ الآيل،
هُوَذَا وَاقِفٌ وَرَاءَ حَائِطِنَا،
يَتَطَلَّعُ مِنَ الْكُوى،
يبرق خلال الشَّبَابِيكِ" [٨-٩].
تتحدث كنيسة الأمم مع الشعب اليهودي في عتاب لطيف، فتقول لهم: لقد تعرفت على "كلمة الله" أو صوت الحبيب، الذي جاء متجسدًا خلال اليهود (ابن أختي)، عرفته خلال جبال الشريعة التي تسلمتموها وتلال النبوات التي بين أيديكم. لقد جاءني ظافرًا بفرح وسرور خلال الشريعة والنبوات، لكن في ملء الزمان جاءني بنفسه كالظبي حاملاً طبيعتنا، مختفيًا وراءها – واقفًا وراء حائطنا – يتحدث معنا مباشرة.
لقد تقبلت رسالة تجسده خلال كوى الشريعة وشبابيك الأنبياء... لقد عرفت صوته وأمكنني أن أميزه (يو ١٠: ٣-٤).
في هذا يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [لقد بلغ بهاء (الكلمة) إلى الكنيسة عن طريق الأنبياء أولاً. أخيرًا بإعلان الإنجيل زالت ظلال الرموز بتمامها وانهدم الحائط الحاجز، واتصل جو البيت الداخلي بنور أعالي السموات، لم تعد هناك حاجة لنور الشبابيك ما دام النور الحقيقي قد أضاء كل الداخل بأشعة الإنجيل].
لقاء على الجبال :
إن كانت الكنيسة قد تعرفت على كلمة الله المتجسد خلال شريعة العهد القديم والنبوات، فقد جاء الحديث هنا بمثابة دعوة موجهه لكل نفس لكي ترتفع بالروح القدس على جبال الكتاب المقدس لتلتقي هناك بالخطيب القادم يخطب مخطوبته. لهذا يقول المرتل: "أساساته في الجبال المقدسة"، "رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عونيّ" (مز ٨٦: ١؛ ١٢٠: ١).
ويرى العلامة أوريجانوس أن النفس التي تُريد الالتقاء مع "كلمة الله" الظافر على الجبال القافز على التلال في كمال الحرية يلزمها أن تلتقي به على جبال أسفار العهد الجديد الحالقة وفوق تلال أسفار العهد القديم التي بقيت زمانًا طويلاً مختفية وغير مدركة.
في سفر إرميا نجد الرب يُرسل قانصين وصيادين ليقتنصوا البشر على كل جبل وفوق كل تل (إر ١٦: ١٦)، وكأنها نبوة عن العمل الكرازي الذي للكنيسة، حيث تصطاد الكنيسة النفوس خلال الكتاب المقدس لتتمتع ببركات الخلاص.
على هذه الجبال المقدسة تلتقي النفوس بكلمة الله، فتراه الخاطب الذي يطلب يدها. هناك تسمع صوت دعوته لها فتختبر حبه وتتكشف أسراره الإلهية وتعاين مجده.
كأن النفس ترتفع مع موسى النبي على جبل حوريب فترى العليقة المتقدة نارًا ولا تحترق (خر ٣: ٢)، تدرك سرّ التجسد الإلهي، إذ ترى العذراء مريم (العليقة) وقد حملت جمر اللاهوت ولم تحترق...
أقول أنها تصعد أيضًا مع موسى على الجبل لتتسلم الشريعة الإلهية ليست منقوشة على لوحين من الحجارة، بل يسكن كلمة الله نفسه في قلبها!.
أو كأنها تجلس مع الجموع لترى يسوعها صاعدًا على الجبل، يفتح فاه ويتحدث معها مباشرة وبلا حواجز (مت ٥: ١)، أو ترتفع معه على جبل تابور ليتجلى أمامها وتدرك بهاء لاهوته وتسمعه يتحدث مع موسى وإيليا عن الأمور الخاصة بأحداث خلاصها. أو كأنها تتسلق مع "كلمة الله" على جبل التجربة، لتراه يُجرب ويغلب من أجلها!
بهذا تفهم النفس المؤمنة لماذا دعى السيد المسيح نفسه بالحجر المقطوع من جبل بغير يد، وقد صار جبلاً عظيمًا (دا ٢: ٤٣)، ولماذا دُعيت الكنيسة أيضًا جبل صهيون إشارة إلى سكنى الله الساكن في الأعالي مع شعبه. إنها تنصت لقول الملاكين للوط: "أهرب بحياتك... أهرب إلى الجبل لئلا تهلك" (تك ١٩: ١٧).
تشبهه بالظبي وصغار الآيل :
بماذا تُشبه العروس خطيبها؟
"حَبِيبِي (ابن أختي) شَبِيهٌ بِالظَّبْيِ أَوْ بِصغيرِ الآيل على جبال بيت آيل[20]" [٩].
1. يُشبه السيد المسيح بالظبي (الغزال)، وكلمة "ظبي" في العبرية تعني "جمال"،
فقد جاء السيد المسيح يطلب يد البشرية التي أفسدتها الخطية وشوهت طبيعتها الداخلية وجمالها الروحي، ليتحد بها فيسكب جماله عليها. وقد لخص الرب هذا العمل الخلاصي العجيب في حديث عتاب مع البشرية، جاء فيه: "َمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ مَدُوسَةً بِدَمِكِ فَقُلْتُ لَكِ بِدَمِكِ عِيشِي.... جَعَلْتُكِ رَبْوَةً كَنَبَاتِ الْحَقْلِ، فَرَبَوْتِ وَبَلَغْتِ زِينَةَ الأَزْيَانِ. نَهَدَ ثَدْيَاكِ وَنَبَتَ شَعْرُكِ، وَقَدْ كُنْتِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً. فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ وَإِذَا زَمَنُكِ زَمَنُ الْحُبِّ. فَبَسَطْتُ ذَيْلِي عَلَيْكِ وَسَتَرْتُ عَوْرَتَكِ وَحَلَفْتُ لَكِ وَدَخَلْتُ مَعَكِ فِي عَهْدٍ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَصِرْتِ لِيّ. فَحَمَّمْتُكِ بالْمَاءِ وَغَسَلْتُ عَنْكِ دِمَاءَكِ وَمَسَحْتُكِ بالزَّيْتِ، وَأَلْبَسْتُكِ مُطَرَّزَةً، وَنَعَلْتُكِ بِالتُّخَسِ، وَأَزَّرْتُكِ بِالْكَتَّانِ، وَكَسَوْتُكِ بَزّاً، وَحَلَّيْتُكِ بِالْحُلِيِّ، فَوَضَعْتُ أَسْوِرَةً فِي يَدَيْكِ وَطَوْقاً فِي عُنُقِكِ، وَوَضَعْتُ خِزَامَةً فِي أَنْفِكِ وَأَقْرَاطاً فِي أُذُنَيْكِ، وَتَاجَ جَمَالٍ عَلَى رَأْسِكِ. فَتَحَلَّيْتِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِبَاسُكِ الْكَتَّانُ وَالْبَزُّ وَالْمُطَرَّزُ. وَأَكَلْتِ السَّمِيذَ وَالْعَسَلَ وَالزَّيْتَ وَجَمُلْتِ جِدّاً جِدّاً فَصَلُحْتِ لِمَمْلَكَةٍ. وَخَرَجَ لَكِ اسْمٌ فِي الأُمَمِ لِجَمَالِكِ لأَنَّهُ كَانَ كَامِلاً بِبَهَائِي الَّذِي جَعَلْتُهُ عَلَيْكِ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ" (حز ١٦: ٦–١٤).
حقًا ما أروعه حديث من الرب المخلص نحو الكنيسة التي ضمها إليه بعد أن مرّ عليها فوجدها ملقاة في الطريق عارية ومدوسة بدمها، فقدسها بالتمام. بسط ذيله عليها، أي خطبها عروسًا له، وستر بدمه عارها وعريها، غسلها بماء المعمودية ومسحها بدهن الميرون، وألبسها حياته، وأعطاها إنجيله سرّ خلاصها، زينها بأعمال الروح القدس، ووضع نيره المقدس كالطوق في عنقها، وأفاح برائحته الذكية تشتمها أنفها، وقدس أذنيها وجملهما بسماع الوعود الإلهية والتسابيح السماوية، وأشبعها بالخبز السماوي وباختصار جعلها "جميلة جدًا جدً" فاستحقت أن تكون ملكة، تعكس بهاء المخلص في حياتها.
في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[21]:
[كما قلت أن ذاك الذي هو عظيم وقوي، رغب في زانية، وأننيّ أتكلم عن الطبيعة البشرية تحت ذلك الاسم: (زانية).
إن كان إنسان يرغب في زانية فإنه يُدان، فكيف يرغب الله في زانية ليكون عريسًا لها؟! ماذا يفعل؟ إنه لم يرسل لها واحد من خدامه، لا ملاكًا، ولا رئيس ملائكة ولا شاروبيم ولا ساروفيم، بل نزل بذاته ذاك الذي يحبها مقتربًا إليها... إنه لا يقودها كزانية إلى العلا، لأنه لا يُريد أن يدخل بزانية إلى السماء، بل هو بنفسه نزل إليها. فطالما تعجز هي عن أن تصعد إلى العلا، نزل هو على الأرض. جاء إلى الزانية ولم يخجل أن يمسك بها وهي في سكرها...].
بمعنى آخر جاءنا الرب "كظبي" ليجعل منا ظبية جميلة وكاملة تقدر أن تعيش في المرتفعات (السمويات)، كقول المرتل: "الذي يجعل رجلي كاملة كرجلي الظبي، وعلى مرتفعات يقيمني".
2. ويعلق القديس أغسطينوس على ذلك، قائلاً[22]: [يجعل حبي كاملاً، فيرتفع فوق شباك هذا العالم المملوء أشواكًا وظلمة. إنه يقيمني على المرتفعات، ويثبت هدفي نحو المسكن السماوي حتى أمتليء بملء الله (أف ٣: ١٩)].
3. يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة "ظبي" في اليونانية جاءت عن حدة إبصاره، ويعلق على ذلك قائلاً[23]: [ومن يقدر أن يرى كما يرى المسيح؟ فإنه وحده الذي يرى الآب أو يعرفه. فإنه وإن قيل عن أنقياء القلب أنهم يعاينون الله، لكنهم يرونه من خلال إعلان المسيح لهم (يو ٦: ٦؛ مت ٥: ٨). فمن طبيعة الظبي ليس فقط يرى ويدرك بدقة وإنما يهب الآخرين قدرة على الإبصار... لهذا يُقارن المسيح بالظبي أو الغزال، إذ ليس فقط يرى الآب، بل يجعله منظورًا بالنسبة للذين يهب نظرهم شفاءً. لكن، يليق بك ألاَّ تأخذ الحديث عن "رؤية الآب" بأي فهم جسداني، أو تظن أن الله كأنه منظور. فإن الله لا يُرى ببصيرة جسدية، بل ببصيرة الذهن والروح... أخيرًا، فإنه يهب الذين يعطيهم قوة الإبصار لله روح المعرفة وروح الحكمة، حتى أنهم بهذا الروح يعاينون الله، لهذا أخبر تلاميذه: "من رآني فقد رأى الآب" (يو ١٤: ٩)].
4. يُعرف الظبي والآيل بسرعة المشي (٢ صم ٢ : ١٨؛ ١ مل ١٢ : ٨)، فأن كلمة الله المتجسد، وأن كان قد جاء إلينا في أواخر الزمان، إي بعد السقوط بآلاف السنوات، لكن هذا لا يعني تباطؤ الله في خلاصنا... إنما كان يُسرع بتهيئة الخلاص، يجري نحونا حتى نزل إلينا في ملء الزمان، هو أسرع إلينا قبل أن نطلبه أو نبحث عنه.
5. يرى القديس أغسطينوس في الآيل ليس فقط سرعة الحركة بكل طاقاته، وإنما في جريه يظمأ فيجري نحو جداول المياه. وفي الطريق يقتل الحيات فيزداد ظمأه لجداول المياه أكثر من ذي قبل[24]. لهذا يقول المرتل: "كما يشتاق الآيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله" (مز ٤٢: ١).
إن كان المؤمنون يجتمعون معًا بروح واحد كآيل واحدة تشتاق إلى جداول مياه حب الله، فإن ابن الله بالحق جاءنا كالآيل في ظمأ إلى "حبنا"... وفي طريق خلاصنا حطم الحية القديمة، إبليس، من أجل حبه فينا.
6. من عادات الآيل القفز على الصخور (٢ صم ٢٢: ٣٤؛ حب ٣: ١٩)، فإن الخاطب الذي قدم إلينا لم يطلب الطريق السهل بل أسرع إلى الآلام بفرح لأجل خلاصنا. وكما يقول الرسول بولس: "ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله، الذي من أجل السرور الموضوع أحتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب ١٢: ٢).
7. حسب الشريعة الموسوية، كان الظبي والآيل من الحيوانات المقدسة، أكلهما محللاً (تث ١٢: ٢٢؛ ١٤: ٥)... لهذا أختير التشبيه بالظبي والآيل، لأن الخاطب وهو يمد يده لعروسه، يقدم جسده ودمه الأقدسين مهرًا لها، سرّ تقديسها وأبديتها!.
8. كما شُبه الخاطب بالآيل فإن خطيبته التي حملت سماته شُبهت أيضًا بالآيل، إذ جاء عنها في سفر المزامير: "صوت الرب يكمل الآيل ويكشف الوعور" (مز ٢٩: ٩). وفي حديث الرب مع أيوب في العاصف خلال السحاب قال له: "هل علمت متى تلد أوعال الصخور أو رقبت نتاج (مخاض) الأيائل؟! هل حسبت أشهر حملهن وعلمت أوان وضعهن؟! يجثمن فيخشفن بأولادهن (يلدن) ويدفعن مخاضهن، ثم تكبر أولادهن وتربى في البر. تخرج ولا تعود إليهن"[25] (أي ٣٩: ١).
يعلق العلامة أوريجانوس على النصين السابقين قائلاً: [بإن الحديث هنا عن الأيائل الروحية، فإن "صوت الرب" الذي هو المسيح كلمة الله هو الذي يهب الآيائل حياة الكمال (مز ٢٩: ٩)... هو سرّ كمالها. أما عن حديث الرب مع أيوب بخصوص الأيائل فإن الرب يؤكد هنا رعايته الشخصية بنفوس المؤمنين، يهتم بأشهر حملهن روحيًا، وحين يلدن الفضائل، ويهتم بصغارها ويربيها ويقوتها... وكأن الله الذي في سفر النشيد شبه بالآيل، هو بدوره يشبهنا بالآيل وبحياتنا الداخلية وفضائلنا، أي سلوكنا في المسيح يسوع.
وفي سفر الأمثال تُشبه الزوجة بالآيل وأولادها بالوعلة... بكونها صورة الكنيسة، العروس الحقيقية، الزوجة المحبة للرب عريسها والمملوءة نعمة... لهذا قيل: "ليكن لك آيلة محبة ووعلة نعمة" (أم ٥: ١٩).
9. أما تشبيهه بصغار الآيل فهو تأكيد للتجسد، فإن الله غير المحدود قد صار طفلاً بتجسده مخلياً ذاته عن كل شيء من أجلنا.
10. يُذكرنا تشبيهه بالآيل بما ورد كعنوان للمزمور الثاني والعشرين "لامام المغنيين على آيله الصبح"، وهو المزمور الذي يصف أحداث الصلب والقيامة بشيء من التفصيل، فماذا يقصد بآيله الصبح، إلاَّ الحياة الجديدة التي قدمها لنا المخلص (الذي كالآيل) بقيامته في صباح الأحد؟!.
وقد جاء ظافرًا على الجبال، قافزًا على التلال ليدخل بخطيبته إلى قوة القيامة، أي لتقبل الحياة الجديدة التي صار لها في المسيح يسوع، وكما يقول الرسول بولس: "أقامنا معه في السمويات" (أف ٢: ٦).
11. أخيرًا فإن ذكره "جبال بيت آيل" يُشير إلى الكتب المقدسة التي لبيت الله (آيل)، أي الكنيسة، فإننا لا نستطيع أن نختبر جمال الرب ولا نتقبل تجسده وقيامته وعمله فينا إلاَّ من خلال الكنيسة (بيت الله