سرّ الوحدة :إذ صار للنفس عيني حمامة، تتطلع إلى أسرار الله بالروح القدس، وتدرك جمال عريسها، تدخل معه في اتحاد أعمق... إذ تُناجيه، قائلة:
"هَا أَنْتَ جَمِيلٌ يَا حَبِيبِي (ابن أختي) وَحُلْوٌ،
وَسَرِيرُنَا أَخْضَرُ.
جَوَائِزُ (عوارض) بَيْتِنَا أَرْزٌ،
وَرَوَافِدُنَا (السقف المائل) سَرْوٌ..." [١٦].
بالروح القدس تطلعت الكنيسة إلى عريسها الملك فرأته بحق جميل في محبته وحلو، وكأنها أدركت أن كل جمال فيها إنما يرجع إليه. وكما يقول العلامة أوريجانوس[40]: [يبدو أن العروس قد رأت جمال عريسها بأكثر قرب، وأدركت بعينيها اللتين دعيتا "حمامتين" جمال كلمة الله وعذوبته. فإنه بالحق لا يستطيع أحد أن يدرك أو يتعرف على عظمة سمو الكلمة ما لم يتقبل أولاً عيني حمامة، أي ينعم بالإدراك الروحي].
وكان من ثمرة هذا الإدراك الروحي لجمال الملك العريس وعذوبة أعماله الخلاصية أنها دخلت معه في اتحاد أعمق، وهي بعد مرتبطة بالجسد في هذا العالم، فقالت:
"سَرِيرُنَا أَخْضَرُ" [١٦].
ما هو هذا السرير الذي يُنسب للملك والملكة (سريرنا)، إلاَّ الجسد الذي تستريح فيه النفس، والذي يتقبل سكنى الرب فيه؟ فجسدنا لم يعد بعد ثقلاً على النفس ولا مقاومًا لعمل الله، لكنه تقدس وصار هيكلاً للرب تستريح فيه نفوسنا ويفرح به الرب. فيه يلتقي الله بالنفس البشرية وخلاله تنعم نفوسنا بالشركة مع الله، ويكون لها ثمر الروح... لذلك دعي "أخضر" أي مثمر!
في هذا يقول العلامة أوريجانوس[41]: [بالرغم من أن النفس لا تزال في الجسد لكنها تُحسب أهلاً أن تكون في صحبة كلمة الله... فتمتد القوة الإلهية لتهب الجسد صلاحًا، نزرع فيه نعمة الطهارة والعفة وغيرهما من الأعمال الصالحة].
لا تقل الملكة "سريري" بل "سريرنا" فإن جسدها لم يعد ملكًا لها وحدها، بل ملك للعريس الملك، لذلك دعى الرسول بولس أجسادنا أعضاء المسيح (١ كو ٦: ١٥). لقد حملت أجسادنا انعكاسًا للوحدة الداخلية بين الكلمة الإلهي والنفس.
والسرير الأخضر يعلن أيضًا "سرّ التجسد"، فهو جسد الملك، إذ أخذ الكلمة الإلهي مالنا... أخذ بشريتنا، وحملنا فيه. هكذا نتطلع إلى جسده كسرير لنا، إذ صار لنا فيه راحة، نرى فيه اتحادنا معه! لقد أثمر جسد الرب طاعة للآب عوض عصياننا، ونقاوة عوض نجاستنا، وغلبة على الشيطان وكل جنوده لحسابنا وباسمنا، بل وتعبد للآب باسمنا، مقدمًا ثمارًا جديدة لحساب البشرية!
العاملون في القصر الملكي :بعد أن تحدثت الملكة عن سرّ اتحادها بالملك، أعلنت مسئولية العاملين في القصر الملكي لحساب هذه الوحدة، فقالت:
"جَوَائِزُ (عوارض) بَيْتِنَا أَرْزٌ،
وَرَوَافِدُنَا (الأسقف المائلة) سَرْوٌ" [١٦].
يرى العلامة أوريجانوس أن الروافد أي الأسقف المائلة التي فوق المنزل والتي تحميه من حرارة الشمس والعواصف والأمطار، إنما هم الأساقفة الذين يعملون بروح المسيح وإمكانياته للحفاظ على المؤمنين، أما الجوائز أي العوارض التي خلالها يتماسك القصر كله فهم الكهنة الذين يخدمون لبنيان أولاد الله. إنه يقول: [أظن إذ يُمارس الأساقفة عملهم الأسقفي في الكنيسة بأمانة يليق أن يلقبوا بالروافد التي تحفظ المبنى كله، وتحميه من الأمطار ومن حرارة الشمس. وأظن أن المكان التالي لهم هم الكهنة الذين يدعون بالجوائز].
ينبغي أن يكون الأسقف من شجر السرو، إذ يمتاز بالآتي:
1. تُعرف شجرة السرو بقوتها العظيمة ورائحتها الجميلة، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [في هذا إشارة إلى التزام الأسقف أن تكون له أعمال صالحة ويحمل عبيق نعمة التعليم...]، أي يحمل جانبين: السلوك الروحي المسيحي الحيّ والقدرة على التعليم ونشر رائحة المسيح الذكية، يخدم بحياته وبتعليمه!.
2. يُكنى بأشجار السرو عن القوة والعظمة (٢ مل ١٩: ٢٣؛ إش ١٤: ٨)، ويُقابل اهتزاز أغصانه مع الريح باهتزاز الرماح في الحروب (نا ٢: ٣). كأن الأسقف وهو راع يلزم أن يكون قويًا في روحه وإيمانه يحمل سلطانًا داخليًا بالروح القدس وخلال حياته المقدسة. لأنه إن ضعف أو أضطرب تعثرت الرعية واهتزت وراءه.
3. في بناء هيكل سليمان فرش أرض البيت بأخشاب سرو (١ مل ٦: 15)، وكأن الأسقف وقد أقامه الروح ليكون قائدًا ومدبرًا وراعيًا للشعب يلزم أن يكون متضعًا (مفروشًا في أرض البيت)، يجلس عند أقدام أولاده، يغسل أرجلهم بروح الحب المملوء اتضاعًا! يُقدمه الشعب كرأس يمثل السيد المسيح، أما في قلبه فيرى نفسه في آخر الصفوف يترفق بالضعفاء والمنكسرين والمحتَقَرين... إنه ملتزم أن يَخدِم الكل لا أن يُخدَم من الآخرين.
4. يُستخدم خشب السرو في بناء السفن (حز ٢٧: ٥)، ليعبر بهم خلال بحر هذا العالم إلى الميناء السماوي، كما يستخدم لعمل آلات الطرب (٢ صم ٦: ٥) ليبعث في شعبه روح الفرح والبهجة، ويطفئ عليهم روح الرجاء في المسيح يسوع!
5. يُستخدم خشب السرو في صنع الرماح (نا ٢: ٣) إذ يلزم بالأسقف أن يحفظ الإيمان ضد كل هرطقة أو بدعة.
6. بسبب شدة أرتفاعه يختاره اللقلق ليبني عشه فيه (مز ١٠٤: ٧)، هكذا يرى كل إنسان – حتى غير المؤمنين – في الأسقف الروحي القلب المرتفع نحو السمويات والفكر المنشغل بالأبديات، فيستريح له في المسيح يسوع.
وما قلناه عن الأسقف نقوله أيضًا عن الكاهن، إذ يقول العلامة أوريجانوس: [بنفس الطريقة قيل عن العوارض أنها من الأرز، لكي يظهر الكهنة مملؤين من كل فضيلة عدم الفساد ويكون لهم رائحة معرفة المسيح]، إذ يمتاز الأرز باستقامته ورائحته الطيبة.
والأرز كان يُستخدم في صنع صواري السفن (حز ٢٧: ٥) ليقودوا الشعب إلى الميناء الإلهي، وفي صنع الآلات الموسيقية، يبعثون بروح الفرح في حياة أولادهم. وقد أستخدم في صنع الجزء الداخلي في هيكل سليمان (١ مل ٦: ٢٠) كما في صنع المذبح (١ مل ٦: ١٨)، ليعلم الكاهن أن رسالته هي بناء بيت الرب الداخلي في القلب فلا يهتم بالمظهر الخارجي أو ينشغل في عمل آخر، وأنه إنما يمثل المذبح، لا عمل له سوى أن يحمل إلى شبعه المسيح الذبيح، ويقدم عنهم تقدمة الصلوات. إنه يشهد للصليب ولا يكف عن الصلاة حتى يدخل بالجميع إلى الحياة الأبدية