إذا تحدثت الكنيسة عن عريسها "المسيا المتألم"، فرأت في آلامه جاذبية حتى انسحبت كثيرات معها إليه، هاج العدو عليها... لهذا تستنجد الكنيسة بذات العريس بكونه "الراعي الصالح"، الذي يدخل إلى حياتها ويرعاها بنفسه، أنها تناجيه، قائلة:
"أَخْبِرْنِي يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، أَيْنَ تَرْعَى؟ أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ؟" [7].
في وسط مرارة قلبها بسبب شدة حرب العدو ضدها تشعر النفس البشرية بعذوبة عناية الله راعيها، فتدعوه "يا من تحبه نفسي". وكأنها تقول مع القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [هذا هو الاسم الذي أدعوك به (يا من تحبه نفسي)، لأن أسمك فوق كل الأشياء، وهو غير مدرك حتى بالنسبة لكل الخلائق العاقلة. هذا الاسم يعلن عن صلاحك، ويجذب نفسي إليك. كيف أقدر ألا أحبك، يا من أحببتني هكذا وأنا سوداء (نش ١: ٤)، فبذلت حياتك من أجل القطيع الذي هو موضوع رعايتك؟![20]].
موضوع الرعاية :
أنها تسأل الراعي الذي أحبته من كل القلب والنفس عن موضع راحته، لتستريح معه وبه... تسأله الطريق حتى لا تسلك حسب أهوائها الشخصية.
في القديم إذ إشتدت شمس التجارب على داود النبي التجأ إلى بيت الله بكونه الموضع الذي فيه يرعى الله ويربض عند الظهيرة، إذ قال:
"إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي،
إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ، فَفِي ذَلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ.
وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي،
لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ،
أَنَّهُ يُخَبِّئُنِي فِي مَظَلَّتِهِ فِي يَوْمِ الشَّرِّ،
يَسْتُرُنِي بِسِتْرِ خَيْمَتِهِ،
عَلَى صَخْرَةٍ يَرْفَعُنِي.
وَالآنَ يَرْتَفِعُ رَأْسِي عَلَى أَعْدَائِي حَوْلِي، فَأَذْبَحُ فِي خَيْمَتِهِ ذَبَائِحَ الْهُتَافِ أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ لِلرَّبِّ" (مز ٢٧: 1–٦).
حقًا، ما أحوجنا أن يمسك الراعي نفسه بأيدينا ويدخل بنا إلى كنيسته، موضع راحته، مرعى الخلاص... هناك نلتقي بالسيد المسيح نفسه سرّ راحتنا وسلامنا، وننعم بمواهب روحه القدوس الذي يعزينا. في بيته نلنا البنوة لله خلال المعمودية، وقبلنا روحه القدوس، ساكنًا فينا خلال سرّ الميرون. في بيته نجد غفران الخطايا وننتعش بالذبيحة المحيية، جسد ابن الله ودمه المبذولان من أجلنا... في بيته نجلس تحت ظلال صليبه، سرّ مصالحتنا مع الله وسلامنا الداخلي. متى قسى العدو الحرب ضدنا، ومتى ثارت الخطية داخلنا، نجري إلى بيته بدموع التوبة فنجد الراعي نفسه يبحث عنا، وروحه القدوس يشتهي تقديسنا!
الظهيرة :
لماذا اختارت العروس أن تلتقي بعريسها الراعي في وقت الظهيرة، قائلة "أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ؟"
إن كنا نلتقي بالراعي الصالح في كنيسته الواحدة الممتدة عبر العصور إنما تدخل إليه لنراه متجليًا فيها كشمس الظهيرة... فلا يعرف أعضاؤها الظلمة أو الظلال، بل يعيشون على الدوام في ذروة نور راعيهم، يستنيرون به فيصيرون بدورهم نورًا للعالم. في هذا يقول الحكيم: "أما سبيل الصديقين فكنور مشرق يتزايد وينير إلى النهار الكامل، أما طريق الأشرار فكالظلام" (أم ٤: ١٨-١٩).
يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص[21]: [إنك تجعلني أربض في الظهيرة... في النور لا يعرف ظلاً، إذ لا يجد ظل في الظهيرة حيث تكون الشمس عمودية علينا].
لا يمكن لأحد أن يتأهل لراحة الظهيرة ما لم يكن ابن النهار والنور... تقول العروس: "أرني كيف أربض؟ عرفني طريق راحة الظهيرة لئلا أضل عن قيادتك الأمينة، ويصيبني جهل للحق، الأمر الذي يصيب القطعان المضادة لقطيعك!".
ويقول القديس أغسطينوس[22]: [ماذا تعني الظهيرة؟ حرارة شديدة وضياء عظيم! إذًا، أنيّ أتعرف عليك يا من حكماؤك هم حارين في الروح، مضيئين في التعليم].
ويرى العلامة أوريجانوس في الظهيرة رمزًا لكمال بهاء الله، فالعروس تُريد أن تلتصق بالرب في ملء عظمته، إذ تناجيه هكذا، قائلة: "يحلو ليّ أن أبحث عنك في هذا الوقت بالذات، فلا أجد في طلبك مساءً أو عندما ترعى في الصباح، أو عند مغيب الشمس، إنما أبحث عنك في هذا الوقت... في وسط النهار حيث تكون أنت في ملء نورك... في ضياء عظمتك!".
وللعلامة أوريجانوس تفسير آخر لكلمة "الظهيرة"، ألا وهو إدراك كمال معرفة أسرار كلمة الله، إذ يقول[23]: [ما تدعوه بالظهيرة يُشير إلى مواضع القلب الخفية، حيث تقتفي النفس أثر نور معرفة كلمة الله الأكثر وضوحًا، لأن الظهيرة هي الوقت الذي تكون فيه الشمس في ذروتها. لذلك إذ يظهر السيد المسيح – شمس العدل – أسرار قوته العالية والسامية لكنيسته يُعرفها مواضع مراعيه المفرحة وأماكن راحته عند الظهيرة. فالكنيسة في البداية إذ تتعلم الأمور "الأولية" تتقبل منه أشعة المعرفة الخفية، لذا يقول النبي: "يعينها الله عند إقبال الصباح" (مز ٤٥: ٦)، أما الآن وهي تبحث عن الأمور الأكثر كمالاً ونشتاق إلى أشياء أكثر علوًا، فأنها تطلب نور المعرفة الذي للظهيرة].
لقاء مع الراعي عند الظهيرة :
تُريد الكنيسة أن تلتقي بعريسها وقد الظهيرة، لأن لهذا الوقت ذكريات فعالة في حياتها، نذكر على سبيل المثال:
1. في وقت الظهيرة ظهر الرب لإبراهيم ومعه ملاكان، وبشره هو وسارة امرأته أنه يقيم لهما نسلاً، يكون بركة لأمم كثيرة (تك ١٨)... يقيم لهما من مستودع سارة الذي في حكم الموت ومن شيخوخة إبراهيم حياة جديدة. هذا هو ما تطلبه الكنيسة من راعيها وقت الظهيرة، أن تلتقي به محوط بملائكته، تدخل معه في شركة الأمجاد السمائية، ليهبها اسحاقها الداخلي، أي يهبها "الحياة الجديدة"، يقيم فينا هذه الحياة رغم ما كنا فيه... إننا تحت حكم الموت وبلا ثمر، وكما اختبر إبراهيم وسارة "قوة القيامة"، إذ أقام لهما الرب من موتهما حياة، هكذا نطلب من راعينا أن نختبر على الدوام قوة القيامة فينا.
كما التقى إبراهيم أب الآباء بالله وقت الظهيرة خارج الخيمة، هكذا يلتزم أولاد إبراهيم الذين يعملون أعمال إبراهيم (يو ٨: ٣٩)، أي أن يخرجوا خارج حدود خيمة الجسد الوقتية طاردين عنهم بالروح القدس كل فكر جسداني وشهوة جسدية حتى ينعموا برؤية الله والتمتع برعايته.
2. وفي وقت الظهيرة التقى يوسف بأخيه الأصغر بنيامين، فحنت أحشاؤه إليه، ولم يقدر إلاَّ أن يدخل المخدع ويبكي (تك ٤٣). هذه هي صورة اللقاء التي نشتهيها حيث يلتقي الراعي الحقيقي البكر بيسوع المسيح بنا نحن اخوته الأصاغر، يرانا فتحن أحشاؤه علينا، ويدعونا "بنيامين" أي "أبناء اليمين".
3. عند الظهيرة سخر إيليا بكهنة البعل، قائلاً: "أدعوا بصوتِ عال لأنه إله العله مستغرق أو في خلوة أو في سفر أو لعله نائم فيتنبه" (١ مل ١٨: ٢٧)، هكذا تُريد الكنيسة أن تقترب من راعيها وقت الظهيرة لتراه إيليا الحقيقي، أي "إلهي"[24] الذي يسخر من إبليس وكل جنوده... وقد تحقق ذلك حيث ارتفع المسيا على الصليب في الظهيرة ليسحق الشيطان وكل جنوده، معطيًا إيانا سلطانًا أن ندوسه تحت أقدامنا.
4. في وقت الظهيرة أعلن الراعي الحقيقي يسوع المسيح ذاته لشاول الطرسوسي الذي كرس طاقاته لإباده أسم يسوع (أع ٢٢: ٩)، فاكتشف شاول حقيقة الراعي الحيّ الذي لا يموت، وتحولت حياته إلى إناء مختار يشهد باسم يسوع المسيح بين أمم كثيرة. هذه هي رعاية المسيا أن يحول المضطهدين إلى كارزين وخدام للكلمة.
5. أخيرًا، فإن تعبير العروس "أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ"، يُذكرنا بنبوة أبينا يعقوب ليهوذا، قائلاً: "يهوذا جرو أسد... جثا وربض كأسد... من ينهضه؟ لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب" (تك ٤٩ : ٩، ١٠). تحققت هذه النبوة حين ربض الأسد الخارج من سبط يهوذا ونام على الصليب وقت الساعة السادسة لا ليستريح بل ليرعى بالحب البشرية، مقدمًا دمه فدية وخلاصًا