بين السواد والجمال :
إذ تلبس النفس مسيحها برًا لها وتقديسًا لحياتها تُقارن ماضيها بحاضرها، فتخاطب بنات أورشليم هكذا: "أَنَا سَوْدَاءُ وَجَمِيلَةٌ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، كَخِيَامِ قِيدَارَ كَشُقَقِ سُلَيْمَانَ" [٥]. إنها تعترف بضعفها الذاتي لكنها تُعلن عن جمالها الذي اقتنته خلال اتحادها بالمسيح يسوع ربها، قائلة: "أنا سوداء كخيام قيدار"[10] التي بلا جمال، لكنني في نفس الوقت جميلة كستائر سليمان (أو كما جاء في الترجمة اللاتينية كستائر سلما) [11].
يرى القديس أغسطينوس النفس البشرية قبل اتحادها بالسيد كقطعة الفحم السوداء، لكنها متى اتحدت به التهبت بناره المقدسة يزول سوادها وتصير جمر نار حارة في الروح، مملوءة جمالاً. وقد قدم القديس أغسطينوس شاول الطرسوسي مثالاً، إذ يقول[12]: [كان الرسول قبلاً مجدفًا ومضطهدًا وضارًا، كان فحمًا أسود غير متقد، لكنه إذ نال رحمة ألتهب بنار من السماء. صوت المسيح ألهبه نارًا وأزال كل سواد فيه، صار ملتهبًا بحرارة الروح، حتى ألهب آخرين بذات النار الملتهبة فيه].
ويرى القديس أمبروسيوس في هذه العبارة صورة لحالة الكنيسة التي تمتعت بالجمال الروحي، وبالإيمان تكملت في جرن المعمودية بنعمة الله، إذ يقول[13]: [إذ لبست تلك الثياب خلال جرن المعمودية تقول في نشيد الأناشيد: أنا سوداء وجميلة (كاملة) يا بنات أورشليم. إنيّ سوداء خلال الضعف البشري، كاملة خلال سرّ الإيمان!].
كما يقول أيضًا[14]: [الكنيسة سوداء بخطاياها، كاملة بالنعمة. إنها سوداء بالطبع البشري، كاملة بالخلاص... سوداء بأتربة الجهاد، كاملة عندما تتكلل بحلي النصرة!].
وتعتبر هذه العبارة في الحقيقة دواءً للمؤمن، متى شعر ببرّه الذاتي وحورب بالكبرياء يصرخ في أعماقه: "أنا سوداء"، وإن تثقلت نفسه بالضعف وحورب بصغر النفس أو اليأس يردد بقوة "أنا جميلة". وكأن الشعورين "بالسواد والجمال" ليسا متناقضين، بل يكمل أحدهما الآخر. شعور يسند في لحظات والآخر يسند في لحظات أخرى. الشعوران يؤديان إلى حالة توازن داخل النفس: الشعور بالضعف الذاتي مع إدراك لقوة عمل النعمة الإلهية.
وللعلامة أوريجانوس تفسير جميل لهذه العبارة... إذ يقول[15]:
[الكنيسة هنا توجه خطابها - لا إلى العريس، ولا إلى العذارى الساعيات في الطريق – بل إلى بنات أورشليم، اللواتي اتهمن الكنيسة العروس بالقبح وشهرن بسوادها، فتُجيب الكنيسة على هذا الاتهام بحديث تؤكد به صدق الاتهام، لأنها فعلاً سوداء، وهكذا تبدو وكما حكمت عليها بنات أورشليم. ولكن ليت بنات أورشليم يدركن جمال الداخل الذي للكنيسة، إذ بينما هي سوداء فهي جميلة.
إنها وأن كانت في سواد وقبح قيدار إلاَّ أنها في جمال شقق – أي ستائر – بيت الملك سليمان.
إن الكنيسة صاحبة هذا الحديث هي كنيسة جماهير الأمم... وبماذا يمكن لكنيسة الأمم أن تتفاخر أمام بنات أورشليم الأرضية، أي اليهود؟ الذين صبوا جام غضبهم على الكنيسة وعريسها، وكالوا للكنيسة كل احتقار وازدراء، ونسبوا إليها دناءة الأصل وخسته، لأنه لا يجري في عروق أعضائها وأبنائها دم النسب إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب... هذا هو الذنب العظيم في نظر اليهود، إن كنيسة الأمم ليست من سلالة الآباء. وتعترف الكنيسة بهذا، وتردد نفس الاتهام الذي تعيرت به من بنات أورشليم "أنا سوداء"، وهذا السواد ليس فقط للحرمان من نسب الآباء، وإنما أيضًا للحرمان من تعليم الآباء والأنبياء.
هؤلاء الذين رفضهم الناموس وطردوا من خيمة إسحق، خلع عليهم الإنجيل جمال شقق وستائر بيت الملك سليمان... وما هي ستائر بيت ملك السلام إلاَّ ستائر خيمة الاجتماع حيث يسكن الله مع شعبه... الخيمة التي غطتها من الخارج جلود الماعز غير الجميلة... واحتوت من الداخل روعة الستائر، فضلا عن مجد الله فيها... وستائر الخيمة هي... من خارج شعر الماعز وجلود الكباش المحمرة وجلود التخس، أما من داخل فالستائر من أسمانجوني وأرجوان وقرمز وبوص].
عرض العلامة أوريجانوس بعض أحداث العهد القديم وعباراته التي أنبأت بدعوة جماعة الأمم السوداء ودخولها إلى الاتحاد مع المسيح كعروس جميلة ومقدسة له، ألا وهي:
1. زواج موسى النبي بالمرأة الكوشية (سوداء البشرة)، الأمر الذي أثار أخته فتكلمت ضده وشهرت به (عد ١٢)، لهذا ضُربت بالبرص وأُخرجت خارج المحلة. حمل هذا العمل صورة رمزية لاتحاد السيد المسيح بكنيسة الأمم الأمر الذي أثار اليهود حتى رفضوا الإيمان به، وصاروا يعيرون الأمم بماضيهم الشرير.
يتحدث العلامة أوريجانوس على لسان كنيسة الأمم إذ تخاطب اليهود، قائلاً[16]: [حقًا إنيّ أعجب يا بنات أورشليم أنكن توبخنني على سواد بشرتي. هل نسيتن ما ورد في ناموسكن وما عنته مريم حين تحدثت ضد موسى لأنه إتخذ لنفسه امرأة كوشية سوداء؟! ولا تعرفن أن هذا الرمز قد تحقق فيّ بحق؟! أنا هي الكوشية! حقًا أنيّ سوداء بسبب رداءة أصلي، لكنني جميلة بالتوبة والإيمان. لقد اتخذت لنفسي ابن الله. لقد قبلت "الكلمة الذي صار جسدًا" (يو ١: ١٤)، لقد أتيت إلى ذاك الذي هو "صورة الله، بكر كل خليقة" (كو 15: 1)، "الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره" (عب ١: ٣)، فصرت جميلة! ماذا تفعلن؟ أتوبخن من تركت خطيتها. الأمر الذي يمنعه الناموس؟! أتطلبن مجد الناموس وأنتن تنتهكن إياه؟!].
2. قصة ملكة سبأ التي جاءت تسمع حكمة سليمان (١ مل ١٠) التي حملت رمزًا لكنيسة الأمم، إذ جاءت تسمع حكمة سليمان (١ مل ١٠) التي وقد أشار السيد نفسه إليها، موبخًا اليهود، قائلاً: "ملكة التَّيْمَن ستقوم في الدين مع هذا الجيل وتدينه لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وهوذا أعظم من سليمان ههنا" (مت ١٢: ٤2).
جاءت ملكة سبأ وتكلمت معه بكل ما في قلبها (١ مل ١٠: ٢) وامتحنته بأسئلة وألغاز ظنت أنها بلا إجابة، لكن سليمان الحقيقي حلّ كل مشاكلها، وأعلن لها معرفة الله الحقيقي، وأوضح لها خلود النفس والدينونة الأخيرة... الأمور التي لم يستطع الفلاسفة أن يوضحوها للأمم بحق.
جاءت الملكة إلى "أورشليم" التي تعني "رؤية السلام"[17]، والسيد المسيح في أسبوع آلامه أعلن للكنيسة امكانياته، قائلاً: "سلامي أنا أعطيكم".
حين رأت الملكة ما لسليمان "لم يبق فيها روح بعد" (١ مل ١٠: ٥)، والكنيسة إذ تكتشف أسرار مسيحها المتألم تذوب حبًا، ولا تطيق بعد إلاَّ أن تنطلق وتكون معه.
لقد قدمت للملك سليمان مئة وعشرين وزنة ذهب (١ مل ١٠: ١٠)، وهو ذات الرقم الذي سمح به الرب في أيام نوح لعمر الإنسان (تك ٦: ٣)، وهو عمر موسى النبي (تث ٣٤: ٧)، وكأن كنيسة الأمم أرادت أن تُقدم كل عمرها كوزنات ذهبية، أي تحمل الطبيعة السماوية.
قدمت أيضًا أطيابًا كثيرة (١ مل ١٠: ١٠) وهي تقدمة الحب التي يتقبلها السيد المسيح من الخطاة التائبين.
3. جاء في سفر المزامير: "يأتي شرفاء من مصر. كوش تبسط يديها إلى الله. يا ممالك الأرض غنوا لله، رنموا للسيد" (مز ٦٨ (٦٧): ٣١، ٣٢). هكذا تبسط كنيسة الأمم السوداء (كوش) يديها لله فتصير جميلة، ومن خلالها ينطلق لسان كل ممالك الأرض بالتسبيح له.
4. ورد في صفنيا: "فانتظروني يقول الرب... لأنيّ أحول الشعوب إلى شفة نقية، ليدعوا كلهم باسم الرب، ليعبدوه بكتف واحدة... من عبر أنهار كوش المتضرعون إليّ، متبددي يقدمون تقدمتي" (٣: ٨–١٠). هكذا تتحول الشعوب الوثنية إلى شفاة تسبيح نقية، وتعبر أنهار كوش أي تترك سوادها وظلمتها خلال تعبدها لله وتقديم ذبيحة المسيح.
5. إذ أنقذ ملك الكوشي إرميا واخرجه بحبال من الجب (إر ٣٨: ٧–١٣) صارت كلمة الرب إلى إرميا: إذهب وكلم عبد ملك الكوشي قائلاً: هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل: هأنذا جالب كلامي على هذه المدينة للشر... ولكنني أنقذك في ذلك اليوم يقول الرب فلا تُسلم ليد الناس الذين أنت خائف منهم، بل إنما أُنجيك نجاة فلا تسقط بالسيف بل تكون لك نفسك غنيمة لأنك قد توكلت عليّ يقول الرب" (إر ٣٩: ١٥–١٨). هكذا كان هذا الرجل الكوشي رمزًا لكنيسة الأمم السوداء التي اتكلت على الله فخلصها.
ختم العلامة أوريجانوس مقارنته هذه بقوله: [توجد عبارات كثيرة – كما ترون – تشهد لهذه السوداء والجميلة تتصرف حسنًا مع بنات أورشليم، وتؤكد بثقة: حقًا أنيّ قاتمة (سوداء) كخيام قيدار، لكنني جميلة كستائر سليمان].
وللعلامة ملاحظة أخرى: [مع أن المتحدث يبدو أنه شخصية واحدة، لكنه تُشبه نفسها بالخيام والستائر بصيغة الجمع، لهذا يلزمنا أن نعرف أن المتحدث هنا جماعة من الكنائس بلا حصر منتشرة في العالم وتجمعات من الشعوب، وذلك كما قيل عن ملكوت الله أنه واحد ومع ذلك يذكر وجود منازل كثيرة في بيت الآب (يو ١٤: ٢)].
بين شمس التجارب وشمس العدل :
تقدم العروس سببًا لسوادها أو ظلمتها، قائلة:
"لاَ تَنْظُرْنَ إِلَيَّ لِكَوْنِي سَوْدَاءَ (داكنة اللون) لأَنَّ الشَّمْسَ قَدْ لَوَّحَتْنِي" [٦].
كان يليق باليهود أن يسندوا الأمم ويكرزوا لهم بالصليب، لكن عوض الكرازة وقفوا يعيرونهم بالسواد الذي لحق بهم بسبب الوثنية، أما الأمم فأجابوا بأن سوادهم ليس طبيعيًا، جبلوا عليه، إنما هي نتيجة ما عانوه إذ "نزلوا" تحت الشمس فلوحتهم. ويعلق العلامة أوريجانوس على ذلك بقوله[18]: [صارت سوداء لأنها نزلت، لكنها حالما بدأت ترتفع "طالعة من البرية" (نش ٨: ٥) مستندة على ابن أختها (الذي جاء مولودًا من جماعة اليهود)، لا تسمح بشيء يفصلها عنه، تصير بيضاء وجميلة. فإن سوادها يتبدد تمامًا وتضيء بأشعة النور المحيط بها. هكذا تعتذر (كنيسة الأمم) لبنات أورشليم عن سوادها قائلة: لا تحسبن يا بنات أورشليم أن السواد المرتسم على وجهي طبيعي، لكن لتفهمن أنه قد حدث بسبب تجاهل شمس العدل ليّ. فإن "شمس العدل" لم يصوب أشعته عليّ مباشرة، لأنه وجدني غير مستقيمة. أننيّ شعب الأمم الذي لم يتطلع إلي شمس العدل ولا وقفت أمام الرب (لو ٢١: ٣٦)... فإنني إذ لم أؤمن في القديم أختارك الله ونلت أنت رحمة واهتم بك "شمس العدل" بينما تجاهلني أنا، ولوحني بسبب عصياني وعدم إيماني. أما الآن فإنك إذ صرت غير مؤمنة وعاصية، صار ليّ رجاء أن يتطلع "شمس العدل" إليّ أنا فأجد رحمة!].
لعل هذا يوضح قول الرسول بولس: "أن القساوة قد حصلت جزئيًا لأسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم... فإنه كما كنتم أنتم مرة لا تطيعون الله ولكن الآن رحمتم بعصيان هؤلاء" (رو ١١: ٢٥،٣٠). ففي القديم كان الأمم مثقلين بشمس التجارب، محرومين من شمس العدل، فأعطيت الفرصة لإسرائيل أن يُختاروا وينعم عليهم بالرحمة، أما الآن إذ رفض اليهود شمس العدل وسقطوا تحت شمس العصيان وعدم الإيمان، تمتعت كنيسة الأمم بالمسيح شمس العدل. لقد زال سوادها القديم بإشراق شمس العدل عليها! ولم تعد شمس الخطية تقوى عليها، كقول المرتل "لا تحرقك الشمس بالنهار ولا القمر بالليل" (مز ١٢٠: ٦).
الحرب الداخلية :
إذ التقت الكنيسة بعريسها المتألم، جذبها إليه فدخلت حجاله وفرحت به، أرواها بمحبته اللانهائية، ففاحت رائحته الذكية، مقدسًا كل أعماقها وأحاسيسها، نازعًا عنها ظلمة الخطية وسواد الشر، عاكسًا جماله عليها، لهذا لا تطيق قوات الظلمة إلاَّ أن تثور ضد العروس.
في هذا تقول العروس:
"بَنُو أُمِّي غَضِبُو عَلَيَّ جَعَلُونِي نَاطُورَةَ (حارسة) الْكُرُومِ،
أَمَّا كَرْمِي فَلَمْ أَنْطُرْهُ" [٦].
من هم بنو أمها؟ وما هو سرّ غضبهم عليها؟
وما هو الكرم الذي تحرسه العروس وكرمها الذي لا تحفظه؟
1. يرى العلامة أوريجانوس أن الترجمة الدقيقة للنص هي: "بنو أمي حاربوا في" وليس ضدي. هنا "بنو أمها" هم الرسل الذين هم من جماعة اليهود، إذ الأمم واليهود من أم واحدة. هؤلاء الرسل لم يكفوا عن أثارة حرب عنيفة داخل الأمم حتى يهدموا كل أبراج الباطل ويحطموا حصون التعاليم الوثنية الخاطئة ويغلبوا كل شر، فيقيموا من الأمم الوثنيين "حارسة لكرم الرب" وحافظة للناموس والأنبياء، أما "كرمها الخاص" أي تعاليمها الوثنية فلا تعود تحفظها أو تهتم بها.
2. وللعلامة أوريجانوس رأي آخر وهو أن الملائكة هم "بنو أمها"، فقد صار البشر والملائكة منتمين إلى أم واحدة، صار الكل أعضاء في كنيسة المسيح. هؤلاء الملائكة يسندوننا ويحاربون عنا ومعنا، إذ يرسلهم الرب لعوننا في الحرب الداخلية ضد الخطية، حتى تقدر النفس أن ترعى كرم الرب الذي هو "القلب" وتتخلى عن كرمها الذاتي أو أعمال إنسانها القديم، فلا تعود تحتفظ بها بل تتخلى عنها[19].
3. هناك تفسير ثالث وهو أن "بني الأم" تُشير إلى "الأنا" أو "الذات" إذ "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت ١٠: ٣٦). الذات البشرية هي عدو يثور ضد عمل المسيح فينا. خلال هذه الحرب يهتم المؤمن بكروم الآخرين وينشغل في كبرياء بمظاهر الخدمة والكرازة دون أن يهتم بكرمه الداخلي أو حياته الداخلية