الأصحاح الأول
1
المسيا المتألم
قبلات الفم الإلهي :
لو أن هذا السفر خاص بالمبتدئين لبدأ بمناجاة الله العريس لعروسه، يلاطفها ويعلن حبه لها، ليدخل بها إلى حياة التوبة، فتصطلح معه وتقبل الاتحاد معه، لكنه هو سفر الناضجين الذين ذاقوا بالفعل محبته والتهبت قلوبهم به. لقد تقبلوا تيار حبه المتدفق خلال الصليب، فيطلبون أن يعيشوا حياتهم كلها يلهجون في هذا الحب الإلهي، قائلين بلسان الكنيسة:
"لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ،
لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ،
لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ، اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ،
لِذَلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى" [٢-٣].
إنه صوت الكنيسة الجامعة وقد رفعت أنظارها إلى الصليب، فاشتمت رائحته الطيبة، ورأت اسمه مهرقًا من أجلها، فوجدت لذة في حبه، لهذا أخذت تناجيه، قائلة: "لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ". وهنا نلاحظ الآتي:
1. إنها تطلب قبلات فم الآب. "لِيُقَبِّلْنِي (هو)". حقًا لقد قبلها الله بقبلات كثيرة على مر العصور. أعلن حبه لها فخلق العالم كله من أجلها، أوجدها من العدم، وأعطاها صورته ومثاله، وباختصار لم يعوزها شيء. بعد السقوط لم يتركها بل وعدها بالخلاص، ووهبها الناموس المكتوب عونًا، وأرسل لها الأنبياء يؤكدون لها خلاصه... لكن هذا كله لن يشبع العروس، فإنها تريده هو بنفسه يقترب إليها ويهبها ذاته... تريد كل قبلات فمه المباشرة! وكأنها بالعروس التي تفرح بالعريس الذي يطلب يدها ويرسل لها أقاربه، ويبعث إليها الهدايا المستمرة الثمينة... لكنه لن تشبع إنما تطلبه هو!
في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [إن الكنيسة في العهد القديم كانت كفتاة صغيرة غير ناضجة، لم تتمتع بصحبة العريس نفسه مباشرة بل تمتعت بصحبة أصحابه أي الملائكة والآباء والأنبياء، ومن خلالهم تقبلت قبلات الله التي هي تعليم العهد الجديد ووصاياه[1]. كانت في طريق النمو، تسير نحو النضوج لترى عريسها قادمًا إليها على جبال الناموس وتلال النبوات فالتهب قلبها بالحي نحوه، قائلة: "ليأت وينزل إلى ويقبلني بنفسه على الصليب، ليضمني إليه بالحب العلمي فأتحد معه". هذا ما أعلنه الرسول بولس في حديثه مع العبرانيين إذ يقول: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب 1: 1-2)... كلمنا بقبلات الحب العملي المباشر.
2. لا تستحي أن تطلب من الابن قبلات الآب، لأن ما هو للآب فهو للابن أيضًا. وما قدمه الابن بإرادته إنما قدمه طاعة الآب. لهذا يؤكد الكتاب: "هكذا أحب الله (الآب) العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يو ٣: ١٦)، وفي نفس الوقت يقول الرسول "أحبني وأسلم ذاته من أجلي"... إن قبلات الصليب لنا هي علامة حب الآب والابن أيضًا!.
لقد سبق فرأينا استحالة انطباق هذه العبارة على أي حب جسداني زمني، إذ تطلب العروس من عريسها قبلات آخر غيره، لكن الحديث هنا عن القبلات الإلهية الروحية التي تحمل معنى الاتحاد الخفي لتكون واحدًا مع الآب في ابنه خلال قبلات الصليب.
3. لا تطلب العروس قبلة أو قبلتين أو أكثر بل تريد كل "قبلات فمه"... هذه أحساسات المؤمن حين ينفتح قلبه لمحبة الله، فإنه يرى كأنه لا يوجد في الحياة إلاَّ الله وهو، فيطلب كل حب الله له.
4. لا تطلب الكنيسة قبلات الرب جميعها فحسب، لكنها تطلب نوعية خاصة من القبلات، ألا وهي " قُبْلاَتِ فَمِهِ"، التي تُعبر عن العلاقة الزوجية الوطيدة والفريدة التي لا يشترك فيها آخر معهما.
لقد سجل لنا الكتاب المقدس نوعيات مختلفة من القبلات، لكنها ليست بالقبلات المشبعة، فقد ودع لابان بنيه وبناته بالقبلات (تك ٣١: ٥٥)، واستقبل يعقوب حفيديه ابني يوسف بالقبلات (تك ٤٨: ١٠)، وودعت نعمى كنتاها بالبكاء والتقبيل (راعوث ١: ٩)، وطلب إسحق من ابنه يعقوب أن يتقدم ويقبله ليأخذ بركة (تك ٢٧: ٢٦)، وتقدم أبشالوم بن داود ليقبل أبناء الشعب ليكسب قلوبهم (٢ صم ١٥: ٥)، وقبل يوناثان داود النبي علامة الصداقة وميثاق الوفاء (١ صم ٣٠: ٤١)، وودعت كنيسة أفسس الرسول بولس بالبكاء والتقبيل (أع ٢٠: ٣٧). هذه كلها قبلات تمت بسبب رباط الدم أو القرابة أو الصداقة أو علامة آلام الفراق... لكنها قبلات مؤقتة، أما الكنيسة فتطلب قبلات الحب الأبدي، قبلات فم الله التي لا تتوقف.
الحب الأطيب من الخمر :
تُناجي الكنيسة عريسها المصلوب من أجلها، قائلة: "لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ". هو حب يسكر النفس، فتنسى كل ما هو أرضي لتهيم في حب الله وحده.
جاءت كلمة "حُبَّكَ" في الترجمة السبعينية "ثدياك"، وكأن المؤمنين يجدون في اللبن الإلهي النابع من الثديين والمشبع للأطفال الصغار عذوبة وفاعلية وقوة أكثر مما للخمر الذي يستخدمه الرجال للدفء والقوة. في هذا يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [ما هو سام في حكمة العالم، يصغر جدًا أمام التعاليم التي نتقبلها من الكلمة الإلهي المقدمة للأطفال. هنا نجد الثديين الإلهيين أطيب من الخمر البشري].
إذ تُردد النفس: "ثدياك أطيب من الخمر" تعود إلى بساطة الطفولة تتطلع إلى خطيبها المرتفع على الصليب وتتعلق به في بساطة الإيمان كالطفل على صدر أمه... ترضع من ثديين حب الله فتنسى كل هموم الحياة وتمتليء تعزية، كقول المرتل: "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي" (مز ٩٤: ١٩).
"ثدياك أطيب من الخمر"... كان الخمر يُقدم للضيوف، خاصة في الأعياد، علامة الفرح، كما كان يُقدم عند تقديم الذبائح (خر ٢٩: ٤٠؛ لا ٢٣: ١٣؛ عد ١٥: ٥٠)، أما حب السيد المسيح ففريد، يهب فرحًا لا يستطيع العالم أن ينزعه!
كان العنب يُعصر في مصر وربما في فلسطين بأن يسحق بالدوس بالأقدام في المعصرة (نح ١٣: ١٥؛ أي ١٤ : ١١)، فينساب عصير (دماء) العنب الأحمر، ويخرج الرجال ثيابهم محمرة، أما إشعياء النبي فقد رأى السيد المسيح – العريس المحب – عظيمًا في القوة، بهيًا، يجتاز المعصرة بثياب محمرة من أجل خلاص عروسه... فتساءل قائلاً:
"مَنْ ذَا الآتِي مِنْ أَدُومَ بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَةَ؟!
هَذَا الْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ، الْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ؟!
أَنَا الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِرِّ، الْعَظِيمُ لِلْخَلاَصِ.
مَا بَالُ لِبَاسِكَ مُحَمَّرٌ وَثِيَابُكَ كَدَائِسِ الْمِعْصَرَةِ؟!
قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي، وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ" (إش ٦٣ : ١–4).
هذا هو الحب الفريد الأطيب من الخمر[2]... فقد أجتاز الرب المعصرة وحده، لا ليقدم خمرًا أرضيًا بل يقدم دمه المبذول عنا، سرّ حياتنا وقوتنا وخلاصنا.
لا عجب أن يبدأ السيد خدمته في عرس قانا الجليل، محولاً الماء خمرًا، لا ليسكروا بل بالحري أفاقهم من السكر، وهبهم الخمر الجديد علامة حبه واهب الفرح والقوة. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [في ذلك الوقت والآن أيضًا لا يكف عن تغيير ضعفنا وإرادتنا الواهية. نعم فإنه يوجد أناس لا يختلفون عن الماء في شيء، باردون وضعفاء ومملؤون سيولة (ميوعة). لنأت بمثل هؤلاء إلى حضرة الرب ليحول إرادتهم إلى خمر، فلا يعودوا كالماء المهو بل يصيرون متماسكين، ويصيروا سرّ بهجة لنفوسهم ولغيرهم[3]]. هذا هو الحب الأطيب من الخمر الذي يدخل بطبيعتنا الضعيفة إلى الحياة الجديدة فتحمل قوة الحياة.
خلال هذا الخمر الجديد، أو خلال الحب العريس الأطيب من الخمر تشتم النفس المؤمنة رائحة أدهان المسيح الطيبة، وترى إسمه دهنًا مهرقًا، إذ إجتاز الصليب وحده، إنها تُناجيه قائلة:
"لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ،
اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ" [2].
الممسوح بالدهن الطيب :
على الصليب سكب الرب كمال حبه فأفاح برائحته الطيبة في المسـكونة كلها،
وظهر أسمه في الأرض كلها.
فاحت رائحة طيبة، فأدركت الكنيسة أنه بعينه الممسوح بالدهن من قبل الآب لخلاصنا، الذي شهد له النبي: "أحببت الحق وأبغضت الإثم. من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز ٤٤؛ عب ١: ٩)، بل وأكد الرب ذلك عندما دخل المجمع كعادته وفتح سفر إشعياء النبي، وقال: "روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأُبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأُنادي المأسورين بالإطلاق والعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحريه..." عندئذ بدأ يقول لهم أنه قد تم اليوم هذا المكتوب في مسامعهم (لو ٤ : ١٧–٢١؛ إش ٦١: ١).
وحين هاج اليهود على الرسل صلت الكنيسة هكذا: "بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته، هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل" (أع ٤: ٢٧).
في العهد القديم، مسح يعقوب الحجر الذي كان تحت رأسه وأقامه ليكون عمودًا في بيت للرب (تك ٢٨: ١٨؛ ٣١: ١٣)، كعلامة إنفتاح السماء على الأرض، أو اللقاء بين الله والإنسان، أو سكنى الله وسط شعبه. وبحسب الشريعة كان الكهنة يُمسحون (خر ٤٠: ١٥)، كذلك الملوك (١ صم ١٠: ١)، والهيكل وكل ما بداخله وأواني بيت الله تُمسح بمسحة مقدسة. هذه المسحة سواء للأشخاص أو الأشياء تعني تكريسهم للرب، فلا يُمارس الأشخاص أعمالاً أخرى في العالم سوى خدمة الرب ولا يستخدم الهيكل أو الأواني المقدسة لغرض آخر غير خدمة الرب. وحين نتحدث عن "خدمة الرب" نقصد "خدمة الرب وسط شعبه" أو الدخول بالإنسان إلى حضرة الرب، إي خدمة الرب خلال البشرية وليس في معزل عنهم. لهذا حين نتحدث عن العريس "كلمة الله" كممسوح نرى فيه تحقيق المسحة في أكمل صورها، إذ حملنا فيه ودخل بنا إلى الاتحاد مع الله... هذا هو عمل المخلص، إذ يقول "من أجلهم أُقدس ذاتي (أي كرس عمله من أجلنا)... لكي يكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق".
هذه المسحة الفريدة قد فاحت رائحتها في السماء، فقد اشتمها الآب رائحة رضا، إذ حملت رائحة طاعة الابن الوحيد الحبيب الذي أطاع حتى الموت، ونحن أيضًا على الأرض نشتمها رائحة طيبة إذ تقتل رائحة نتانة خطايانا (مز ٨٣: ٥)، وتجعل منا "رائحة ذكية" (٢ كو ٢: ١٥). هذه هي فاعلية مسحته، أنه المسيح الذي يجعل من الخطاة مسحاء لهم رائحته الذكية.
لقد تحدث آباء الكنيسة عن آثار هذه المسحة المقدسة في حياتنا، فيرى القديس غريغوريوس النزينزي في سرّ العماد... أن المعمد يتمتع بسمات المسيح، فتفوح رائحة المسيح الذكية في كل أحاسيسه، إذ يقول[4]: [ليتنا نشفى من جهة الشم أيضًا... فلا يصعد علينا الغبار بل الرائحة الذكية (إش ٥: ٢٤)، لنشتم الدهن المهرق لأجلنا، لنقبله فينا روحيًا، فنتشكل ونتغير بواسطته، فيشتمون فينا الرائحة الذكية].
ويرى القديس أغسطينوس أن الأدهان الطيبة هي رائحة المسيح السماوي الذي يجتذب بصليبه القلب في السماء، إذ يقول[5]:
[لنحبه ولنتمثل به، لنجري وراء أدهانه...
لقد جاء وأفاح رائحته الطيبة التي ملأت العالم!
من أين جاءت هذه الرائحة الطيبة؟ من السماء!].
إذًا، فلتسيروا نحو السماء إن أردتم ألا تجاوبوا باطلاً عندما يقال لكم: إرفعوا قلوبكم[6]... إرفعو أفكاركم، إرفعوا حبكم ورجاءكم، حتى لا تفسد هذه الأشياء على الأرض... فإنه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا (مت ٦: ٢١).
ويتحدث القديس أغسطينوس أيضًا عن جاذبية هذا الدهن الطيب، قائلاً[7]: [لنحول حواسنا عن رائحتنا الكريهة ونتوجه إليه، فنتنسم أنفاسنا قليلاً