نزول المخلص إلى الجحيم
لو أن الربّ يسوع لم يحتضن بتدبيره الخلاصي كل الكائنات، أولئك الحاضرين، أولئك الذين كانوا، وأولئك الذين سيولدون، لما كان مخلصَ الجنس البشري. فهو لا شكّ خالق كلّ هؤلاء وإلههم ومخلصهم بآنٍ واحد، وتنع*** هذه الحقيقة بقول بولس الرسول: “يسوع المسيح هو هو، البارحة، اليوم وإلى الأبد” (عب 8،13).
لذلك فإن نـزول المخلص إلى الجحيم بعد موته على الصليب، وهو مثوى نفوس كلّ الذين عاشوا وماتوا قبل مجيئه إلى العالم، كان عملاً طبيعيّاً ضروريّاً ومنطقيّاً. نـزول المخلص إلى الجحيم والبشارة التي تمّت هناك يشكّلان جزءاً لا يتجزّأ من التدبير الخلاصيّ للجنس البشريّ.
يرى البعض في رواية متّى الإنجيليّ للأحداث التي رافقت صلب المخلص وصفاً دراميّاً لنـزول المخلص إلى الجحيم: “والأرض اهتزّت، والصخور تشقّقت، والقبور تفتّحت وقامت أجساد قدّيسين راقدين، ودخلت المدينة المقدّسة (أورشليم) بعدما قامت من بين الأموات وظهرت لكثيرين” (27، 51-53). بعد ذلك يتحدّث عن وقوع زلزال (28، 2)، كأنه يربط بين موت المسيح وقيامته. فالزلزال علامة لظهور إلهيّ على غرار تجلّيات الله في العهد القديم. يُظهر تصوير متّى للحدثَين أن المسيح على الصليب والمسيح في القبر هو منتصر وليس ضحيّة.
يصف بطرس الرسول هذا السرّ بقوله “مماتاً بالجسد محيى بالروح الذي فيه أيضاً ذهب فكرز للأرواح التي في السجن” (1 بط 3، 19). وهذا معناه أن المسيح، بينما كان بجسده في القبر، نـزلت النفس إلى الجحيم أثناء موته الثلاثيّ الأيّام. إذن هناك في القبر جسد ميت، وهناك في الجحيم نفس حيّة. وقد أوضح بطرس الأمر في عظته يوم العنصرة، مستشهداً بالمزمور: “لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فساداً” (أع 2، 27 ومز 15، 10) مؤكّداً بذلك نـزول المخلص بنفسه البشريّة إلى الجحيم بينما كان جسده مطروحاً ميتاً في القبر.
يتّفق التقليد الكنسيّ مع الكتاب المقدّس حول هذا التعليم. يقول القدّيس إيريناوس: “إن المسيح خضع لقانون الموت ليكون بكر الناهضين من الأموات، وبقي حتى اليوم الثالث في أعمق أعماق الأرض”. ويقول القدّيس أثناسيوس الكبير: “بلغت بُشْرَةُ المسيح القبرَ، أما نَفْسُه فقد نـزلت إلى الجحيم. فقد أودع يسوع جسده حيث جسد الإنسان ينحلّ، أما نفسه فحيث نفس الإنسان يقيّدها الموت. لم يبقَ المسيح كإنسان بعيداً عن الموت حتى يدمّر كإله سلطانَ الموت، فحيث زُرع الفساد هناك ينبت عدم الفساد”.
أرفق المسيح نـزوله إلى الجحيم ببشارة الإنجيل الذي كرز به على الأرض. فالإنجيل والخلاص هو نفسه لكلّ الناس، الذين على الأرض والذين في الجحيم، على حدّ تعبير بطرس الرسول. لقد بشّر المسيح بنفس دون جسده النفوسَ (في الجحيم) دون أجساد. لم تكن روح المخلّص لتختلف عن نفوس البشر في الجحيم سوى باتّحادها بألوهته. أما كيف تمّ التواصل بين روح المخلص وأرواح الموتى فأمر نجهله. ما من شكّ أنه بغياب وساطة الجسد، كانت النفوس تتمتّع بحسّ تواصل أسرع وأكثر شفافية مما وهي في الجسد. فإذا كانت الكرازة على الأرض استغرقت ثلاث سنوات، ففي الجحيم لم يلزم أكثر من ثلاثة أيّام، سيما وأن نفوس الأموات قد سبق تهيئتها على يد السابق يوحنا المعمدان، كما تعبّر الكنيسة عن هذه الحقيقة في طروبارية السابق: “وكرز للذين في الجحيم بالإله الظاهر بالجسد والرافع خطيئة العالم والمانح إيّانا الرحمة العظمى”.لم يستثنِ المخلص من الكرازة أحداً، حتّى أكثر الخطأة، كما يبيّن ذلك الرسول بطرس، فالكرازة شملت حتّى أولئك الذين بسبب مساوئهم العديدة قضوا في الطوفان (1 بط 3، 20).
ما من شكّ أن النفوس في الجحيم كانت حرّة في الاستجابة لكرازة المخلص، سلباً أم إيجاباً، بالرفض أو بالموافقة. فلو أن النفوس في الجحيم كانت محرومة من إمكانية الاختيار فما معنى نزول المخلص إليها وكرازته فيها، طالما أن النتيجة لا ترتبط باختيار إنساني، ولكن بالإكراه؟
يقول الذهبيّ الفمّ في عظة يوم الجمعة العظيمة: “اليوم جال المخلص في كل أرجاء الجحيم، اليوم خلع الأبواب النحاسية وحطم أقفاله الحديديّة (أش 45، 2). كم من الدقة في الوصف! لم يقل “قد فتح الأبواب”، بل خلعها، ليؤكّد أنه جعل أبوابها عديمة الاستعمال ثانية، ولم يقلْ “سحب الأقفال” بل حطّمها، ليؤكّد أن حراسة المكان باتت غير ممكنة. فهل من الممكن اعتقال أحدهم في سجن دون أبواب، أو خلف أبواب بغير أقفال؟ وإذا كان المسيح هو مَن خرّبها، فمَن يستطيع أن يصلحها؟ فالمقصود هنا أنه وضع حدّاً للموت. فالأبواب النحاسيّة صورة عن صلابة الموت وقساوته. وأما الآن وقد أشرق النور في الجحيم، غدت الجحيم سماءً”.
لهذا أتت أيقونة “نـزول المسيح إلى الجحيم” في الرسم البيزنطيّ لتصور الشهادة “اللاهوتيّة” للحدث ولتقدم المعنى العميق الذي تمثله القيامة. ونحن أيضاً نمثل أيقونة حية لقيامة المسيح فينا وحقيقة نـزوله إلى جحيم حياتنا وخطايانا. لذا نهتف جميعاً: المسيح قام!
أيقونة القيامة - إعداد المطران سلوان، متروبوليت بونيس ايريس وسائر الأرجنتين