عشرات المؤمنين حولنا يحملون أسوأ الصفات البشرية!
كتب اقبال بر كة
لا تفكروا فى إطلاق حرية العقيدة قبل إلغاء خانة الديانة من البطاقات الشخصية
مازال السؤال الذى طرحته روزاليوسف - المعتادة - فى عدد سابق يتردد صداه فى خاطرى ويؤرقنى.. ماذا يحدث لو أطلقنا حرية العقيدة فى مصر؟
السؤال طرح بهدف إلقاء حجر فى بركة الثقافة الراكدة فى مصر.. نوع من جر شكل المثقفين ليتحركوا.. لينتفضوا غاضبين أو مؤيدين مهللين.. المهم أن يفيقوا من الغفوة التى طالت والسلبية التى استفحلت..
هل يمكن أن نرى مصر دولة مدنية كاملة يمكن أن تضم محفلا بهائيا ومعبدا بوذيا وكنيسة لشهود يهوه والسبتيين والمرمون؟!
هل يمكن أن نرى معبدا مجوسيا لعبدة النار وأن نشاهد من يتعبد للشمس وللأهرامات أو غيرهما من المعتقدات؟! وهل نسمح للا دينيين بالتعبير عن آرائهم دون خوف من عقاب؟!
السؤال فى حد ذاته يتضمن الإجابة.. مستحيل.. أو على الأقل.. ليس أوانه.. إذا كان إطلاق حرية العقيدة يعنى أن نسمح فى مصر بمواكب يسير فيها مئات الآلاف من المسلمين الشيعة صارخين ملوحين بالسيوف ضاربين أجسادهم بالسلاسل الحديدية حتى تسيل الدماء غزيرة من كل جزء منها؟!
إذا كان يعنى أن تفتح مصر التى لم يتحول أبناؤها عن السنة رغم تحكم الفاطميين فى بلادهم سنوات طويلة، أبوابها اليوم للشيعة وينقسم الشعب إلى طوائف ومذاهب يقتتلون فى الشوارع ويقتحمون المساجد بالمدافع الرشاشة كما يحدث فى العراق ولبنان..؟!
هل يمكن تخيل انتشار تماثيل من كل حجم ولون لبوذا تنتشر فى مداخل البيوت وفى الطرقات والأماكن العامة فى كل مكان بمصر؟!
هل يمكن أن يقيم اللادينيون حفلات رقص وطرب وموائد عامرة بالطعام قبل أذان المغرب بدقائق أو ساعات تحديا للروح السائدة فى رمضان التى تقنع المسيحيين ذاتهم بألا يتناولوا الوجبة الرئيسية إلا بعد أذان المغرب؟
لو أجبنا عن كل تلك التساؤلات بالقبول فنحن نحكم على الروح المصرية بالإعدام.. مصر البوتقة الساحرة التى ذابت فيها كل الجنسيات وكل الأعراق وكل المذاهب والطوائف على مدى آلاف السنين.. لم تعان من التمزق والتناحر إلا فى فترات مختصرة ليست شيئا فى عمر الزمان، تاهت فيها المعالم وضل المصريون طريقهم ثم سرعان ما وجدوه واتبعوا البوصلة.. هذا لا يعنى مطلقا أن يتحول المصريون إلى كتلة صماء لا تعدد فيها ولا تنوع. فعلى مدى التاريخ تعايش المسلمون والمسيحيون على أرض مصر، وتقبل الاثنان بناء الكنائس التبشيرية لكافة الطوائف المسيحية وانتشارها فى المحافظات وألحقوا - مسلمين ومسيحيين - أبناءهم للدراسة فى مدارسها، بل شعروا بالفخر لخروج ذريتهم عن نطاق المحلية الضيق وانتمائهم للعالم على ما اتسع وتنوع. ورغم كل التجاوزات التى ارتكب
تها الجماعات الإسلامية فى حق مسيحيى مصر، فمازالت قائمة المضطهدين والمقهورين والمعتقلين من المسلمين أضعاف أضعافهم، وقائمة المفكرين الإسلاميين الذين عانوا واضطهدوا طويلة، وليس من بينها مسيحى واحد، تبدأ من الإمام محمد عبده والشيخ على عبد الرازق والدكتور طه حسين مرورا بالشهيد فرج فودة والدكتور نصر حامد أبوزيد والدكتورأحمد صبحى منصور وانتهاء بجمال البنا وسيد القمنى.. إلخ.. والكارثة أن دعاوى تكفير المفكرين تنطلق ممن يعتبرون مثقفين.. من محامين وأساتذة جامعات وصحفيين.. أى أن الثقافة لم تغير من عقلياتهم ولم تقنعهم بأن الدين الإسلامى متين وليس بحاجة لحمايتهم. إنهم لا يطيقون أن يختلف معهم فى الرأى أحد من أبناء دينهم، فما بالك بأديان أخرى غير الأديان الكتابية..؟!
ما معنى أن نفرح إذا ما انضم فرد أو جماعة إلى ديننا، ونبتئس ونستنكر إذا ما تركه فرد آخر..؟!
إن ذرة رمل إذا ما تطايرت فى الجو بفعل نسمة هواء لن تؤثر بحال على بلايين الذرات فى صحراء شاسعة، وإذا أتتها ذرة أخرى من مكان ما فلن تضيف أو تنتقص منها شيئا. وفى عصر تفشى التدين المظهرى صرنا نرى العجب.. عشرات المؤمنين من حولنا يحملون أسوأ الصفات البشرية.. منهم المجرم الذى يقتل نفسا بغير ذنب لأهون سبب، والمحتال الذى ينصب على الناس ويسلبهم مدخراتهم وربما قوت يومهم باسم الدين، والكاتب أو الداعية الغوغائى الذى يتربح من غفلة الناس وجهلهم ويكنز ملايين الدولارات فى البنوك باسمه، والسياسى المدعى الذى يتاجر بأحلام الناس، والطبيب الذى يتربح من الاتجار بالأعضاء البشرية.. و.. و.. و.. كل هؤلاء يظهرون الورع والتقوى ويواظبون على الصلاة فى المساجد والكنائس ويجاهرون باستعدادهم للاستشهاد ذودا عن عقيدتهم إذا ما لزم الأمر.
الشعوب المسيحية فى الغرب لا تأبه ولا تحرك ساكنا إذا ما غير أحد مواطنيهم دينه، والعديد من مشاهيرهم يجاهرون بتغيير دينهم إلى أديان أخرى كالبوذية واليهودية والبهائية والإسلام وغيرها، ولم ينتقص ذلك من مكانتهم ولا غير من نظرة الآخرين إليهم. بل إن التزاوج بين الأديان فى تلك الدول غير محظور ولا مقيد بأى شروط، ولا شىء يدل على عقيدتك الدينية.. لا البطاقة ولا الرقم القومى ولا جواز السفر، وبالتالى لاأحد يسألك عن دينك لأنه لن يغير فى الأمر شيئا. ولكن الغرب لم يصل إلى تلك الحالة من التسامح إلا بعد أن مر بمشوار طويل رهيب من الاضطهاد الدينى الذى ارتكبه المسيحيون ضد طوائف أخرى مسيحية، وضد اليهود وضد المسلمين بعد إنكسار دولة الأندلس. تاريخ طويل تشيب من هول تفاصيله الرءوس انتهى بالغربيين إلى كراهة ونبذ التطاحن حول العقائد الدينية إلى الأبد.
أما فى الشرق فالأمر يختلف تماما، فرغم أن الإسلام كعقيدة دينية أرسى قواعد حرية الإيمان لمن يشاء وحرية الكفر لمن يشاء ورفع لافتة لاإكراه فى الدين ونزلت الآية الكريمة لكم دينكم ولى دين عبر آية موجهة للرسول الكريم تنظم علاقته بالكافرين أى الوثنيين الذين ظلوا على عبادتهم للأوثان، رغم كل هذا مازال بين المسلمين من ينكر على المسلم أن يغير دينه ويعتبره مرتدا يحل قتله. وفى القرآن الكريم تحذير للرسول (وبالتالى لكل من يعتلى منصة الدعوة) فذكر إنما أنت مذكر.. لست عليهم بمسيطر وتحذير ثالث ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. كل تلك الآيات - العلامات - التوجيهات الإلهية الصادرة إلى النبى المختار من رب الكون لم تقنع البعض من المتأسلمين المتاجرين بالعاطفة الدينية الجياشة للمصريين، الذين يسعون لفرض وصايتهم على المسلمين بدعوى الحفاظ على الدين، فإذا بهم السبب الرئيسى وراء انفضاض الناس من حول هذا الدين..!
فى عصور الظلام عانت أوروبا بشدة من التعصب الدينى، وكانت شبهة الخروج عن تعاليم الكنيسة تؤهل المسيحى للحرق حيا
وفى تاريخ الدولة الإسلامية اقتنص الحكام منصب خليفة رسول الله.
وتدخلوا فى قضايا الدين عن غير فهم، فعذبوا الفقهاء وكسروا عظامهم واعتقلوهم فى الجب ليجبروهم على تغيير آرائهم وقائمة شهداء الرأى من المسلمين فى الدولتين الأموية والعباسية طويلة يضيق المقام بخوض تفاصيلها.
ولكن الدولة الإسلامية على جسامة وكثرة أخطائها لم تعرف الاضطهاد للأديان الأخرى، والتزم الخلفاء بقاعدة لا إكراه فى الدين ولكم دينكم ولى دين.
فى مجتمع تتفشى فيه الأمية الأبجدية والثقافية مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وازدياد معدلات البطالة فإن أى تغيير فى التركيبة العقائدية الحالية يعنى هز البنيان من أساسه وتعريضه للانهيار.
مازلنا فى حالة تأزم بين مسلمين يكفرون مسلمين ويجافون المسيحيين ويعتبرون الشيعة خارجين عن الملة والبهائيين مرتدين والمسيحيين كفارا، فما معنى إطلاق حرية الدخول إلى البوذية والهندوكية والمجوسية... إلخ؟
السؤال الذى طرحته روزاليوسف فى عددها الصادر يوم 92 أغسطس 9002 رغم جرأته الشديدة لن يحرك ساكنا فى المياه المصرية الراكدة، ولا أشك فى أن الإجابة عنه بالفم المليان كلا وألف كلا.. فلنترك الحال على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء للقضاء.
ولنوجه طاقتنا للمطالبة بإلغاء بند الديانة من بطاقة الرقم القومى، وتجاهل الفرمان الهمايونى الذى يتحكم فى بناء الكنائس وليحل محله قانون موحد لدور العبادة، ولنكف عن إطلاق صفة النصارى ووصف المسيحيين المصريين بالأقباط واعتبارهم أقلية، ولنطالب بتنقيح مناهج الدراسة من كل ما يؤدى إلى التعصب ونبذ الآخر، وتلقين التلاميذ احترام الآخر خاصة من أهل الكتاب طاعة لقوله تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون سورة البقرة: 631.
وقوله تعالى: الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما (النساء:251)
[size=16]وبعد أن تتلاشى الأمية وتسود روح الديمقراطية الحقة وتنتشر المعرفة الدينية الصحيحة ستأتى حرية تغيير الدين تلقائيا ودون حاجة إلى تقنينها