كان للمتنيح البابا كيرلس السادس مع الشهيد العظيم مارمينا العجائبي
دالة عجيبة، أعمق من أن يدركها الناس، فأرواح الأنبياء مخضعة للأنبياء،
وعمق الشركة مع القديسين في المسيح يسوع واقع حقيقي ليس في خيال أو
مبالغات في الكلام. لقد لمس القريبون من البابا القديس هذه الدالة وكانوا
يتعجبون فيما بينهم ويتناقلون هذه الأخبار العجيبة التي تحدث كل يوم في
حياة البابا وهو يرعى ويعتني بقطيع المسيح مسنودًا من الشهيد العظيم
مارمينا العجائبي.
أعرف إحدى السيدات التقيات وهي من عائلة متدينة من قنا،
يحيون حياة مسيحية ويتحلون بفضائل جميلة، عائشين في خوف الله
ويتمسكون بالإيمان وحياة القداسة. وكانوا- كعائلة- معروفين لدى البابا
كيرلس مقربين إليه إذ قد أدرك بإفرازه الفائق مدى حبهم للمسيح وتمسكهم
بالفضيلة وحياة الإيمان فيهم.
وكانت هذه السيدة من الذين يواظبون على القداسات اليومية لا
سيما في فترة وجود البابا بالإسكندرية... فهي حريصة على نوال بركته
يوميًا هي وبعض أفراد عائلتها.
وحدث ذات يوم بعدما فرغ البابا من صلاة القداس الإلهي
وبارك الحاضرين ووزع عليهم البركة، وهو في طريقه إلى قلايته
أمسكت به سيدة تبكي بدموع وتستغيث بالبابا أن يعينها في تجربة مُرة
كانت مجربة بها، وكنت في ذلك اليوم حاضرًا مع البابا صلاة القداس،
وعبًثا حاولت أن أهديء السيدة التي كانت منفعلة بكثرة البكاء... وكان
منظرها ولجاجتها يذكرانني بالمرأة الكنعانية التي كانت تصرخ من أجل
ابنتها حتى أخذت من الرب شفاء ابنتها.
كان المجتمعون حول البابا في طريقه يراقبون هذا المنظر،
والحق يُقال أن هذا المنظر كان يتكرر كثيرًا من ذوى الحاجات
والأمراض والضيقات والتجارب، وكانوا يثقون أن باباهم الحنون يستطيع
بنعمة المسيح أن يريح التعابى منهم.
التفت البابا إلى هذه السيدة المسكينة، وقال لها بأسلوبه الأبوي
العذب "طيب يا بنتي هانبعتلك مارمينا، خلاص، خلاص، هانبعتلك
مارمينا".
وكانت تقف إلى جوارى من الناحية الأخرى الأخت الصعيدية
مع بنت أختها تراقب إلحاح السيدة وجواب البابا ووعده أنه سيرسل لها
مارمينا، وإذا بهذه الأخت تصرخ نحو البابا وتقول وأنا يا سيدنا وأنا يا
سيدنا.. فالتفت إليها البابا وقال "عاوزه إيه يا بنت إنتِ" فقالت في سذاجة
تشبه الأطفال الصغار ابعت لىّ مارمينا يا سيدنا... ابعت لىّ مارمينا.
فقال لها البابا وهو يبتسم "طيب روحي يا بنت انت كمان".
انصرفنا بعد أن صعد البابا إلى قلايته، وذهب كل واحد إلى حال
سبيله.. وذهبت هذه الأخت إلى مدرستها لأنها كانت مدرسة في إحدى
المدارس الإعدادية.. وعادت في آخر النهار إلى منزلها، واهتمت بأمورها
المنزليه، وأعدت الطعام لزوجها، ولما عاد من العمل تناولا الطعام
معًا...إذ لم يكن لهما أولاد. وزارهما بعض الأقارب كعاتهما وقضيا وقًتا
طيبًا بين الكلام الروحي والصلاة وسّير القديسين لأن هذه هي عادتهم إذا
اجتمعوا وهي ناسية تمامًا ما حدث في الصباح مع البابا، إذ لم تضع هذا
الأمر في حسبانها ولا أولته اهتمامًا. كانت قد نسيت كل شيء.
وبعدما صليا صلاة نصف الليل هي وزوجها التقي، خلدا إلى
النوم وكانت الساعة تقترب من الحادية عشر قبل منتصف الليل. وحوالي
الساعة الثانيه بعد منتصف الليل، وبدون مقدمات، فتحت هذه الأخت
عينيها مستيقظة من نومها وسمعت صوت باب الحجرة ينفتح وهالها
المنظر الرهيب النوراني.. مارمينا العجايبي بمنظره التقليدي رافعًا كلتا
يديه وبردائه القصير يدخل في هدوء عجيب ويتقدم نحوها كطيف نوراني
رقيق. توقفت الأخت عن ألتنفس مرتاعة، إذ داهمها شعور بالخوف وعدم
الاستحقاق، لم تضبط نفسها، ولم تصدق ما تراه. حاولت في تلك اللحظة
أن توقظ زوجها، استجمعت قواها لكي تحرك يدها لتوقظه فلم تستطع أن
تحرك ذراعها. حاولت أن تنادي زوجها، فلم تجد نفسها قادرة على
الكلام، تجمدت تمامًا... وبالكاد من هول ما أصابها، استطاعت بعد جهد
أن تسحب البطانية وتستر بها وجهها... ولم تدر بنفسها كيف غلبها
النعاس فنامت.
قامت في الصباح الباكر متأخرة أكثر من ساعة عن ميعادها،
قالت في نفسها لقد تأخرت عن القداس، لكنها بسرعة جهزت نفسها
للخروج وجرت مسرعة إلى الكنيسة وبالفعل وصلت إلى الكنيسة
المرقسية. كان البابا قد انتهى من القداس وصرف الناس وصعد إلى
قلايته. وفي عجلتها هذه وشعورها بالتأخير وفي محاولتها للوصول في
هذه الزحمة، كانت قد نسيت الرؤيا التي شاهدتها في فجر اليوم.
سألت عن البابا قالوا لها لقد صعد إلى قلايته من دقائق، جرت
مسرعة إلى الطابق العلوي، قرعت الباب فتحوا لها. وهي معروفة لدى
السكرتاريين وخدام البابا. قالت سيدنا فاتح قالوا لها نعم، قالت آخذ بركة.
.. قالوا لها ادخلي، دخلت سرعة.
وكان البابا جالسًا على كرسيه في طرف صاله الاستقبال الملحقة
بقلايته. عملت مطانية من عند الباب وهي تقول السلام لك يا سيدنا...
فاجأها البابا بأن رد عليها بصوت عال وهو محتد وقال لها "انت يا بنت يا
قليلة الذوق، انت ما عندكيش دم". استغربت غاية في الغرابة لماذا هذا
الكلام... ولأول مرة تسمع سيدنا يوبخها، ماذا يا سيدنا.. ليه يا سيدنا
فقال لها نبعت لك الرجل تعملي فيه كده! هنا تذكرت الأخت الرؤيا
ومنظر مارمينا... فصرخت تعتذر.. خفت يا سيدنا... حقك علىّ أنا خفت
ولم أعرف ماذا أفعل... أخطيت حاللني وسامحني.
عاد البابا يبتسم ويقول لها "لما انت مش قد الحاجات دي تبقي
تسكتي".
طلبت إليه أن يصلي لها. وضع يده على رأسها وباركها. وكانت
تتوسل إليه وتقول أوعى مارمينا يزعل مني يا سيدنا. وكان البابا يضحك
ويقول: القديسون ما يعرفوش الزعل يا بنتي.
عادت السيدة تقص علىّ في ذات اليوم هذه الحادثة العجيبة، لقد
أرسل لها مارمينا فع ً لا، وعاد مارمينا فحكى للبابا ما حدث مع السيدة
تمامًا.،. أصابتني دهشة عظيمة.. إلى هذا الحد من الصداقة والأُلفة صار
البابا مع مارمينا. أحسست أننا نعيش أيام السماء على الأرض... لا
فرق... لا حساب للزمن... لا حدود للمكان... انفتحت السماوات، صار
الناس في زمن نعمة منحدرة من السماء بسبب هذا البابا الروحاني، رجل
الصلاة وصديق مارمينا.