القبر المقدس:
وهكذا بدأ بناء الكنيسة التي تُسمَّى كنيسة القبر المقدس. ثم سُمِّيَت فيما بعد ”كنيسة القيامة“ بواسطة الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية حتى يومنا هذا. والكنيسة هي في الواقع مُجمَّع مباني استغرق بناؤه 30 عاماً (تم تكريسه للعبادة عام 335م).
كنيسة القيامة من الداخل
وبدءاً من الشرق إلى الغرب، كانت هناك أولاً كنيسة ”بازيليكا“ (تُسمَّى ”المارتيريَم“ أو ”الشهادة“)، ثم ساحة مفتوحة، ثم قبة ضخمة فوق قبر الرب يسوع (تُسمَّى ”الأنستاسيا“ أي ”القيامة“). ويمكننا رؤية هذا الترتيب في لوحة موزاييك ضخمة تسمى خريطة ”المادابا“. وهذا البناء الشاهق وقف راسخاً لمدة سبعمائة عام. وقد انفعل الأسقف يوسابيوس جداً في وصفه، بل وجازف بذِكْر أن هذا قد يكون تحقيقاً للنبوَّة عن أورشليم الجديدة المذكورة في إشعياء 56 : 17- 19.
والذي دفعه إلى هذه الملاحظة هو التقابُل الكبير بين هذا الموقع والتل المقابل له، حيث الهيكل اليهودي المنهدم (الذي تم تدميره عام 70 ميلادية). ولذلك فقد قرر المسيحيون في عصر يوسابيوس (وفي القرون القليلة التي تليها) أن يتركوا هذا التل مُهدَّماً ومهجوراً ليكون شهادة حيَّة لنبوة الرب يسوع حين تنبَّأ عن دمار الهيكل. الآن تأسَّست أورشليم جديدة متمركزة حول عبادة المسيح، هذا الذي رفضته أورشليم القديمة قبل 300 عام. كما يقول القديس كيرلس الأورشليمي مُشيراً إلى أنَّ: ”أورشليم تلك صلبته؛ وأورشليم هذه تعبده“.
تحويل فلسطين:
لكن لم ينتهِ قسطنطين بعد من خطته للأراضي المقدسة، لكن من الواضح أن هذا المشروع قد حفَّز طاقاته وطاقات المسيحيين المحليين معه.
وسريعاً ما تمَّ بناء كنيستين أُخريين بجوار أورشليم: كنيسة الميلاد في بيت لحم، وكنيسة على جبل الزيتون (سُمِّيَت ”الإيلونا“ أو ”كنيسة الزيتون“).
رأى يوسابيوس أن هاتين الكنيستين مع كنيسة القبر المقدس يُشكِّلون ثالوثاً مُميَّزاً، يُمثِّل كلٌّ منهم بنداً من قانون الإيمان المسيحي (ميلاد الرب يسوع، الصَّلْب، القيامة، ثم الصعود). كما ربط بينهم أيضاً بأن كلاًّ منهم يتركَّز في مغارة: المغارة التي وُلد فيها الطفل يسوع (هذا التقليد عن ميلاد يسوع في مغارة يعود للنصف الأول من القرن الثاني)؛ والمغارة التي دُفن فيها الرب يسوع؛ والمغارة الكائنة على جبل الزيتون، والتي حدَّدها المسيحيون من قبل حيث تحدَّث الرب يسوع منفرداً مع تلاميذه عن دمار الهيكل (إنجيل متى - أصحاح 13).
كنائس القدس القديمة في منظر عام
امتدَّت اهتمامات قسطنطين لِمَا بعد أورشليم، حيث أَمَرَ ببناء كنيسة في موقع ممرا (بجوار حبرون) مرتبطة بحادثة زيارة الغرباء الثلاثة لإبراهيم (تك 18: 1-22). فقد فَهِمَ يوسابيوس وآخرون هذه الحادثة على أنها حادثة ظهور إلهي، رؤية ظاهرة لله. وربما رأى قسطنطين في الكنيسة المسيحية حول العالم تحقيقاً لوعد الله لإبراهيم أن يكون ”أباً لجمهور كثير“.
وقد طلب شخص يُدعى الكونت جوزيف من الإمبراطور قسطنطين أن يُخصِّص بعض الدعم لكنائس في الجليل، غالباً تلك التي في الناصرة وكفرناحوم. نظرياً، تمثِّل الجليل - لأسبابٍ عديدة - الكثير على الخريطة المسيحية، لكن بحلول القرن الرابع كانت مركزاً للربِّيين اليهود. وبناء هاتين الكنيستين (في الناصرة وكفرناحوم) أشعل شرارة المقاومة المحلية. لكن السُّيَّاح المسيحيين (مثل ”إيجيريا“ و”باولا“ تلميذة جيروم) غامروا بالارتحال شمالاً.
من المعالم الشهيرة، المنطقة الشاطئية غرب كفرناحوم (”الهيبتابيجون“ أي ”الينابيع السبعة“، وتُعرف حالياً بالتابغة)، وقرية قانا، وجبل طابور (الموقع المفتَرَض لتجلِّي المسيح أمام تلاميذه الثلاثة: مت 17: 1-7).
المدينة المقدسة:
كُتَّاب العهد الجديد لا يصفون أية أماكن محدَّدة بالمقدسة أو ذات ميزة روحية. فالعبادة الحقيقية لا ترتبط بمكان معين بل «بالروح والحق» (انظر يوحنا 1: 14؛ كو 3: 2،1؛ يو 4: 21-24). إن كان هناك شخص فسيكون هو الرب يسوع نفسه، الشخص القدوس الحقيقي (مثل ما ورد في: يو 2:19-21، فهو نفسه يُجسِّد الهيكل، الذي كان المكان المقدس في العهد القديم).
لقد حوَّل مجيء الرب يسوع مقاصد الله في العهد الجديد. لذلك ففي أيام العهد الجديد صارت أورشليم الأرضية «مُستعبدة مع بنيها» (غل 4: 25)، وبدلاً من ذلك يجب أن يُركِّز المؤمنون أنظارهم على أورشليم الجديدة السماوية.
ويبدو أن هذا الاتجاه كان هو السائد في القرون الثلاثة الأولى. المسيحيون الأوائل: يوستينوس الشهيد، رأى في الحادثة المأساوية لدمار أورشليم عام 70م، ثم مرة أخرى عام 135م؛ دليلاً على أن مقاصد الله قد تخلَّت عن أورشليم الأرضية. يوسابيوس القيصري تبع فكر مدرسة الإسكندرية ممثَّلاً في اللاهوتيين أمثال أوريجانوس، والذي ركَّز على الطبيعة الروحية للإيمان المسيحي مقابل ما يُسمَّى بالطبيعة الأرضية للإيمان اليهودي. لذلك امتلأت كتاباته بإشارات لأورشليم السماوية، والقليل جداً عن أورشليم الأرضية.
لكن لما بلغ يوسابيوس الخامسة والستين من عمره، عندئذٍ فقط بدأ يبحث عن ألفاظ يصف بها اكتشاف قبر الرب يسوع، وبدأ في استخدام لغة ”الأماكن المقدسة“. ومن بعده أصبح هذا الاتجاه سائداً، كما يظهر في كتابات القديس كيرلس الأورشليمي وإيجيريا. التجسُّد في نظر القديس كيرلس جعل هذا المكان مقدَّساً.
وبعد كل هذا، فأرض فلسطين - كما رآها يوسابيوس - هي المكان الوحيد في العالم والذي يمكن التحدُّث عنه كموطئ قَدَم الله: «لنسجد عند موطئ قدميه» (مز 132: 7)، وقد فهم مسيحيُّو هذه الحقبة هذه الآية من المزمور وطبَّقوها على الأماكن التي وطأها المسيح بقدميه.
هذا الفهم الجديد لتلك الأماكن المرتبطة بحياة الرب يسوع، أحدث تغييراً كبيراً في نظرة المسيحيين لأرض فلسطين نفسها؛ إذ صار الحِجُّ إليها عادةً وتقليداً مسيحياً شعبياً في كل أنحاء العالم.
+ نطلب ونُصلِّي من أجل أرض فلسطين التي وطأتها قدما المسيح المُبشِّر بالسلام، أن يعُمَّ فيها السلام. +